لو نتمتّع ببعض النزاهة

لو نتمتّع ببعض النزاهة

16 يناير 2021
+ الخط -

مع كل وفاة أو حدث كبير يختص بفنان أو كاتب أو مبدع سوري، يعود الحديث والنقاش حول قرب هذا المبدع من النظام السوري، واستفادته منه فترة ما قبل الثورة السورية. ويبدأ التخوين وإلقاء التهم حول انتهازية هذا المبدع أوذاك، وتبدأ معها محاولات ادّعاء المخوّنين الطهارة الثورية، وكأنهم كانوا يعيشون في كوكبٍ آخر خارج الكوكب السوري الذي كنا نعيش فيه جميعنا. وعلى الرغم من أن أي نقاش حول الإبداع دليل عافية، فإن نقد العمل الإبداعي من دون ذكر الشرط الزمني والظرفي في أثناء إنتاج العمل، وتأثير هذا الشرط على قيمته وأهميته، مع التلميح العلني والمضمر إلى أن هذا المبدع أو ذاك كان رديفا لهيمنة الاستبداد في سورية، لمجرّد وجوده وعمله فيها، فيه كثير من الكلام الجزاف والتجنّي على المبدعين السوريين، وما فعلوه قبل الثورة، مثلما فيه محاولة إظهار أن سورية عقيمة، لم تنتج سوى الاستبداد والإجرام والتفاهة، وهو أيضا ظلم كبير للسوريين، ولمرحلة ثقافية وفنية بأكملها. يحتاج الكلام عنها إلى القليل من الإنصاف، ليس فقط من أجل مبدعي سورية، بل أيضا من أجل تاريخها، خصوصا أن حاضرها مريض جدا، ويكاد يكون عقيما في ظل الحرب والإجرام والتردّي في كل مناحي الحياة فيها. 

تعرّض مبدعون سوريون كثيرون في السنوات السابقة إلى التخوين والاتهامات من "ثوريين" يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة، مثلما يمتلكون حق منح "الشرف الثوري" للآخرين، لأسبابٍ لا يعرفها إلا هم أنفسهم. ويسبّب هذا مهاترات كثيرة تحدُث سواء في الصحافة، أو على مواقع التواصل الإجتماعي، والتي لا تفعل سوى شحن السوريين بمزيد من الانقسام والكراهية والتقوقع والابتعاد أو الانعزال، وهو ما حصل فعلا خلال سنوات العقد المنصرم، وجعل كثيرين ينأون بأنفسهم عن الخوض في أي موضوع يتعلق بالثورة أو بالسياسة أو حتى بالثقافة، خشية التعرّض لحملات شتائم وكراهية، لا يمكن لبعضهم تحمّل نتائجها النفسية والمعنوية، (هل كانت حملات التشوية عفوية فعلا؟).

من يعرف سورية جيدا يتذكر أن المبدعين السوريين كانوا أمام خيارين لا ثالث لهما، البقاء بلا عمل والاكتفاء بما هو فردي، وبالتالي حرمانهم من أي فرصة للظهور أو للفعل العام أو للمشاركة فيما يمكن وصفه بالضوء البسيط داخل الظلام السوري السياسي، أو الاضطرار للاستفادة من ميزات كانت أجهزة النظام تمنحها لأسباب عديدة، لا يمكن لأحد الإنكار أن تبييض صورته في طليعتها، يعرف الجميع أن كل شيء في سورية كان يقع تحت سيطرة النظام، من الإعلام إلى الثقافة إلى الفن وشركاته، إلى كل شيء، مثلما يعلم الجميع أن لا فعل ثقافيا أو فنيا يمكن أن يحدُث من دون موافقة من جميع أفرع الأمن السورية. حتى في احتفالية دمشق عاصمة ثقافية 2008 كان التدخل الأمني حاضرا، على الرغم من رسمية الاحتفالية، ومن كان من السوريين يريد فعل شيء متميز أو جماعي مؤثر كانت حياته استدعاءات أمنية متواصلة، أو على علاقةٍ وثيقةٍ بدائرة النظام. وبالمناسبة، كان مثقفون يعتبرون أنفسهم ويصنفون أحيانا معارضين للنظام قبل الثورة من أشدّ المقرّبين لهذه الدائرة، وهذا من عجائب التركيبة السورية بكل حال. 

هل كان من الأفضل، برأي هؤلاء، ترك تلك المساحة المتاحة ليحتلها مهرّجو النظام فقط من الفاشلين ومعدومي المواهب؟ ألم يكن من الطبيعي لمن يعيش في سورية أن يحاول استغلال كل منفذٍ متاح لإبراز الجمال في المجتمع السوري وثقافته وعراقته، تسليط الضوء على الكوادر والمواهب التي كان يمكن أن تطمس تماما؟! ثم هل يعتقد هؤلاء أنه كان على جميع المثقفين السوريين مغادرة سورية كي لا "يتلوثوا" بشبهة التعامل مع النظام. وللعلم أيضا، حتى ما تم منعه رسميا من أعمال لمبدعين سوريين، كان يتم تداوله في أوساطٍ يعتقد بعضٌ أنها خاصة، لكنها في الحقيقة كانت تحظى بموافقة غير معلنة من أجهزة النظام، أو هل كان على جميع المثقفين التعرّض لتجربة الاعتقال، كي يحظوا بالشرف الثوري الحالي؟ وهل أصلا مانحو الشرف هذا اعتقلوا سابقا، وهل كانوا يعملون في مؤسسات معارضة للنظام؟ وهل من أي مؤسسة معارضة للنظام ولا تدور في فلكه كان وجودها مسموحا به في سورية؟ قليل من النزاهة والإنصاف لما كان موجودا ربما يفيد في ردم هوة، ولو صغيرة، في الخلافات السورية المتكرّرة.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.