لم تنته اللعبة في العراق بعد

لم تنته اللعبة في العراق بعد

15 يونيو 2022
+ الخط -

قمّة الاستعصاء السياسي في العراق هي الدوران حول المشكلة، والعجز عن القبض عليها. عشرون عاما، والعراق غارقٌ في مشكلاته، وكل مشكلة تلد أخرى، والذين يتصوّرون أن الحل كامن في قدرة هذا الطرف المحلي أو ذاك واهمون، لأن ثمة قوى دولية وإقليمية، بعضها يعمل في السر وبعضها في العلن، وكلها ليست لها مصلحة قائمة في إيجاد الحلول التي تلبي طموحات العراقيين وتطلعاتهم، بل لو توفرت هذه الحلول بقدرة قادر سوف تُجهز عليها هذه القوى وتفشلها، لأن مصلحتها هي في بقاء الوضع على حاله، وبما يتوافق مع أهدافها الاستراتيجية في المنطقة. أما الصراعات والخلافات بين الأطراف المحلية فليست سوى مناورات بائسة، وأحيانا شرسة، ويظل موضوعها "الكعكة" وكيفية اقتسامها.

هذا ما بدا جليا بعد الانتخابات البرلمانية التي توهم بعضهم أنها ستوفر لهم ما حلموا به، عندما أعطوا أصواتهم لهذا الطرف أو ذاك، وكانوا يمنّون أنفسهم أن الحال سوف يتغيّر، ومرّت ثمانية شهور، وهم يتطلعون لمن ينقذهم من ويلات العيش في ظل نظامٍ لا يوفر لهم أبسط متطلبات الحياة، الأمن والأمان، والصحة، وضمان العمل، والتعليم، وهامشا ولو صغيرا من الحرية والديمقراطية التي زعم الأميركيون أنهم جاءوا إلى العراق من أجل توفيرها لهم!

من يتصوّر أن الحل كامن في قدرة هذا الطرف المحلي أو ذاك واهمون، لأن ثمة قوى دولية وإقليمية تتحكم بالأمر

وقياسا على ما حدث في الشهور الثمانية الأخيرة، ليست صورة المستقبل، كما تبدو في عيون العراقيين اليوم، وردية، خصوصا بعد انكفاء انتفاضة تشرين وعدم قدرتها على التحوّل إلى ثورة ناجزة، تطيح كل أفراد المنظومة الحاكمة، وتؤسّس لمشروع وطني خالص، والأسباب معروفة: عدم تحديد أهدافها بوضوح، وتركيزها على مطالب خدمية محضة، وافتقارها إلى قيادة فاعلة ومتفاعلة، وضعف التنسيق بين مواقع حركتها، وطرحها أحيانا شعارات بعضها غير مدروس، ما سهّل انقضاض الخصوم عليها عبر اختراقها في حالاتٍ كثيرة، وتلك حقيقةٌ لا يمكن القفز عليها، وقد استغلت المنظومة الحاكمة هذا كله من أجل لخبطة الأمور وإشاعة الفوضى، والسعي إلى إعادة إنتاج "العملية السياسية" الماثلة، ومحاولة إلباسها ثوبا جديدا يخفي عيوبها ونقائصها، ويداري عجزها عن الفعل.

وهذا ما يريده طرفا المعادلة، إذ يصر "الإطار التنسيقي" الذي يتزعمه نوري المالكي، ويضم حزب الدعوة والمليشيات الولائية، على المطالبة بحكومة "توافقية" تجمع كل الأطراف، على أن تحفظ لمكوّن معين حقه في الاستئثار بالموقع التنفيذي الأول في الدولة، وهذا يعني العودة إلى نقطة الصفر، والحفاظ على السمة الطائفية للعملية السياسية، وهي السمة التي سبّبت للبلاد كل هذا الدمار والخراب، فيما يدعم "تحالف إنقاذ وطن" دعوة مقتدى الصدر إلى حكومة "أغلبية وطنية"، طارحا اسم أحد أفراد عائلة جدّه الصدر الأول لإشغال الموقع التنفيذي الأول في الدولة، كون العائلة، بحساب الصدر، هي القادرة على حفظ الدين والمذهب، وهو زعمٌ لا يتفق مع فكرة "الأغلبية" في المفهوم الديمقراطي، بل ويناقضها.

خطوة الصدر أخيرا فاجأت حلفاءه الأكراد وأربكت حساباتهم، كما فاجأت وأربكت حسابات قادة المكون السني الذين عصفت بينهم الخلافات من قبل

أخيرا، قذف الصدر حجرا كبيرا في المياه الهائجة، إذ أمر نوابه بالاستقالة من البرلمان، ملقيا بمسؤولية الانسداد السياسي على خصومه، كما أوعز بإغلاق معظم المؤسّسات التابعة لتياره، ودعا إلى تقليم أظافر "الحشد الشعبي"، وهي خطوةٌ تنذر بتداعياتٍ كثيرة قد تفضي إلى الإقدام على حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة قد لا تكون نتائجها أفضل من الانتخابات الأخيرة، أو ربما ينتقل الصراع إلى الشارع، وهو ما توقعه خصمه نوري المالكي نفسه، ما يعني المزيد من إراقة الدم، خصوصا أن ردود الأفعال لدى المواطنين العاديين في سيولةٍ لا تعرف التوقف.

على الوتيرة نفسها، ينقسم الأكراد بين فريق يدعم الإطار التنسيقي يقوده حزب الاتحاد الوطني الذي تهيمن عليه عائلة طالباني، فيما يدعم الحزب الديمقراطي الكردستاني وزعيمه مسعود البارزاني التيار الصدري، إلا أن خطوة الصدر أخيرا فاجأت حلفاءه الأكراد وأربكت حساباتهم، كما فاجأت وأربكت حسابات قادة المكون السني الذين عصفت بينهم الخلافات من قبل، وأحدثت بين بعضهم بعضا ما صنع الحداد.

هذا كله لا يصنع صورة لمستقبل وردي، إنما يزيد المشهد الماثل عتمة وسوادا، لكنه، في الوقت نفسه، يكشف لمن ما يزال يُحسن الظن أن اللعبة لم تنته بعد، وأن الحال لن يكون أفضل ربما حتى لسنين مقبلة، وقد يجرّ إلى وضع العراق على شفا التفكيك الذي بانت ملامحه في الأفق، خصوصا أن أطرافا محلية باتت مقتنعة بأن الأوفق لبلدٍ مثل العراق أن يقسّم، وأن يأخذ كل طرفٍ حصته. تغذّي هذه القناعة جهاتٌ دوليةٌ وإقليميةٌ لا تريد لهذا البلد أن يعود إلى موقعه المؤثر والفاعل على صعيد المنطقة والعالم.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"