لمن يكتب الباحث الفلسطيني؟
(عبد عابدي)
يلفت نظري في أثناء قراءة الأخبار العاجلة، الوفيرة في منصات التواصل الاجتماعي، مشاركة أصدقاء مُهتمّين في البحث العلمي رسائلَ نشر أو قبول أوراقهم الأكاديمية في المجلّات العلمية المُحكّمة، وهو خبر مفرح لأيّ باحث وأكاديمي تكبّد عناء تطوير إشكاليته وفرضيته، فضلاً عن عمل الكتابة الطويل والمضني. ولكن ما خطر في بالي سؤال قديم جديد عن الجدوى التي يراها الباحث الفلسطيني من جهده هذا، وأستحضر هذا السؤال لدى البدء في كتابة أيّ بحث أو مقال أكاديمي جديد، ثم أجد أن السؤال يتفرّع إلى أسئلة أخرى عديدة، تنبع وتصبّ وتتقاطع مع حقائق الواقع الفلسطيني الحالي، الذي يتّسم بالعبثية والعشوائية في أحيانٍ كثيرة، منها: هل أصبح البحث العلمي الغاية، أم وسيلةً لغاية جمعية وطنية؟ هل نشهد حمّى نشر البحث العلمي الفردي، أم هناك رؤية جامعة لجعله متراكماً ومصّنفاً يصبّ، في نهاية المطاف، في تطوير حقول معرفية معينة، وخدمة مصلحة وطنية ما؟. بكلمات أخرى، هل يكون البحث العلمي وسيلة الأكاديمي الفلسطيني لدقّ جدران الخزّان، أم لا خزّان في مخيّلته أو اعتباراته؟ فالعناوين التي تُعنى بتتبع الاختزال التدريجي لمفهوم الفلسطيني وحقّ تقرير المصير، والاستيطان الرعوي في فلسطين وسيلةً للاستيلاء على الأراضي، وتدمير التراث الثقافي في قطاع غزّة، وتفتيت المجتمع الفلسطيني، من المفترض أنها جميعاً عناوين تعالج مواضيعَ بالغة الحساسية، ذات علاقة عضوية بحاضر الفلسطيني ومستقبله، تسعى جميعها، وغيرها، إلى أن تُطلق صرخةً ما، أو هذا ما ينبغي أن تكون عليه.
تستغل الأكاديميا الإسرائيلية التراكم المعرفي لتوطيد أركان الاحتلال
قد يتردّد الفلسطيني المشغول في العمل البحثي عن مكاشفة نفسه خجلاً من الإجابة عن الجدوى، بل ويتضاعف الخجل لدى الكتابة في زمن الإبادة التي تتهدّد وجوده المادي والمعنوي، الفردي والجمعي، متسائلاً عن مشروعية التفكير والتحليل والانشغال بالأطر النظرية تحت وطأة معول الموت وإلهام الدم وقرقعة البطون الجائعة. يحضر في هذا المقام موقف رواه صديقٌ للشاعر المصري أحمد بخيت، خلال ثورة يناير (2011)، حين استحثّه على كتابة الشعر في ضوء الحدث، فأجاب الشاعر بأن الوقت ليس وقتَ الكتابة، بل وقت الوقوف في ميدان التحرير، أحد أكثر الرموز المكانية لثورة يناير أهميةً.
من جهة أخرى، من المُجحف تحميل الباحث الفلسطيني عبء عشوائية الخطوات بالكامل، فقد كان هو الآخر مادّةً للتغيّرات التي شهدها المجتمع الفلسطيني ما بعد الانتفاضة الثانية، وإعادة هندسته، بتحوير أهدافه من التحرّر إلى الانغماس في مشاريع نيوليبرالية لبناء "الدولة الفلسطينية" ومؤسّساتها، التي أعادت تشكيل وعيه وأولوياته، وخسفت حلمه من التحرّر والعودة إلى توفير أقساط الشقّة والسيارة. وإن كان على المثقّف (بالوعي المفترض لديه) واجبُ ودورُ رفض تحوير الهدف الوطني، بل ومقاومته، فإن غياب رؤيةٍ وطنيةٍ جامعةٍ قد عزّز من أحلام الفردانية واتساع مدى الخطى العشوائية.
ألقى هذا الغياب بظلاله على الأكاديميا الفلسطينية عموماً، التي تخلو صروحها من مأسّسة البحث العلمي، ليتجاوزَ دوره التأريخي أو التوصيفي والتحليلي إلى أدوار حيوية أخرى، منها ما ينصبّ على استقراء الواقع الفلسطيني الصعب والمعقّد للخروج بالتوصيات والرؤى اللازمة، إمّا لمواجهته أو تدشين طرق نجاة أخرى تعزّز الوجود الفلسطيني وتثبّته، ومنها ما يتعلّق بأخذ زمام الدور الطلائعي في الحشد، والتكاتف ضدّ المشاريع الاستعمارية، بنشر الوعي بالقضايا الراهنة ومآلاتها، وذلك باستخدام خطابٍ خالٍ من تعقيدات اللغة الأكاديمية، بهدف استفزاز الفعل، وفي الحالة الراهنة ابتعاثه من رماد، وبهذا تُكسَر دائرة النخبوية المغلقة، لتصبح حالةً تمدّدية مجتمعية عامة.
البحث العلمي، في حدّ ذاته، ليس غايةً نهائيةً، ولا ينبغي له أن يكون، فما القلم في هذا المقام إلا أداة، والكلمات وعاء، يُستخدمان لأجل غاية أجّل وأكبر
في المقابل، تعمل أكاديميا الاحتلال الإسرائيلي على توظيف إنتاجها المعرفي لتوطيد أركان دولة الاحتلال، ومجابهة "العدوّ" (الشعب الفلسطيني)، معبّرة عن الاستغلال الأمثل للتراكم المعرفي، سيّما الاستعماري، في السيطرة على الشعب الفلسطيني وقتله، وشرعنة أفعالها وسياساتها في سبيل ذلك. مثالاً، تعاضدت في العام 2024 جهود وزارة الصحّة الإسرائيلية مع أكاديميين إسرائيليين عاملين في مؤسّسات أكاديمية إسرائيلية بارزة، مثل جامعات حيفا والعبرية وبن غوريون وهداسة للطب، في احتساب السعرات الحرارية المستهلكة من الغزّي بين يناير/ كانون الثاني وإبريل/ نيسان 2024، ضمن مشروع مسحي "علمي"، لتقييم (وتحليل) حصّة الفرد الغزّي من المساعدات الغذائية "الكافية"، المدخلة من دولة الاحتلال إلى قطاع غزّة خلال الحرب أخيراً، لدرء اتهاماتٍ دوليةٍ طاولت إسرائيل بتجويع المدنيين الفلسطينيين في القطاع، وهو ما يمكن اعتباره مثالاً حيوياً على تقاطع أهداف الدولة مع المؤسّسات الأكاديمية، أو الأكاديمي الذي يوظّف أدواته البحثية ومكتسباته المعرفية لخدمة الهدف الوطني الجامع، أمّا محاكمة أخلاقيةِ المشروع المذكور من عدمه فمسألةٌ أخرى.
أخيراً، نشطت بالفعل الأكاديميا الفلسطينية المحلّية، وغير المحلّية، في إعداد الدراسات والمقالات، وعقد المؤتمرات عن الإبادة الجماعية الحاصلة في قطاع غزّة، من دون أن تتولّد منها مُخرجات لاحقة عملية؛ وهو ما يقود إلى تساؤل آخر عن موقع القوى "الفاعلة" بالنسبة إلى النشاط الأكاديمي، التي يمكن لقراراتها وبرامجها منح الكلمات بُعداً آخرَ أكثر امتداداً من صفحات المجلّات العلمية الناشرة، إلّا أن الخطوات اللاحقة لا زالت غائبةً عن المشهد، الأمر الذي يبتر أثر فعل الكتابة ويحبطه، ذلك أن البحث العلمي، في حدّ ذاته، ليس غايةً نهائيةً، ولا ينبغي له أن يكون، فما القلم في هذا المقام إلا أداة، والكلمات وعاء، يُستخدمان لأجل غاية أجّل وأكبر.