لمن يقرع الكاتب أجراسه؟

لمن يقرع الكاتب أجراسه؟

02 اغسطس 2022

(رونيه ماغريبت)

+ الخط -

معظم القراء لا يعرفون حقيقة أن هناك نحو ست عشرة مرحلة تمر بها الكلمة، ابتداءً من كونها فكرة مجردة في ذهن الكاتب، إلى أن تصبح نصاً مطبوعاً في كتاب أو مقالاً في صحيفة ورقية أو إلكترونية، أي أن الفكرة تحتاج إلى اجتياز مراحل أكثر عدداً من عمليات تحويل حبّات القمح إلى رغيف خبز ساخن، بل قد لا تعلم سوى قلة من الكتّاب أنفسهم بتراتبية هذه المراحل التي تعبرها مقالاتهم، قبل أن يطالعوها في اليوم التالي على دفعها إلى هيئة تحرير الصحيفة، مصحّحة من الأخطاء.
غير أنّ هذا التمهيد لا يجيب عن السؤال الذي لا يبارح عقل الكاتب، وهو يتخير موضوعه من بين عدد من القضايا المثارة في محيطه، فهناك كاتب ينأى بنفسه عن القضايا الخلافية، وآخر لا يعي ماهية المسائل الأشد إلحاحية من غيرها لدى المخاطبين بإطلالته الصباحية، فيما يتنكّب المنخرطون بجدّية في مخاطبة الرأي العام، المهمومون باللحظة السياسية المتغيرة بين وقت وآخر، في كيفية التقاط الجمرات الملتهبة برؤوس أصابعهم العارية، ومن ثمة الإسهام في السجال المحتدم في حينه حول الأولوية الأولى لدى المتلقين.
على هذه الخلفية، يتميز الكتّاب، ليس بعضهم عن بعض فقط، وإنما كذلك لدى جمهور لا يرحم كاتبه المفضل عند أول زلّة قلم، وقد لا يغفر له النأي بنفسه عن الموضوعات الأثيرة لدى الناس، حتى إن قرّاء يهاتفون كاتبهم لائمين، ويبدون خيبة أملهم إزاء تجاهل هذه المسألة أو تلك من المسائل المطروحة للنقاش العام. وعندما يتغيب أحدهم عن الإدلاء بدلوه في لجّة بئر الاهتمامات المركزية، ويتكرّر الأمر فترة ما، ينصرف القرّاء عنه، ويصدرون أحكامهم القاسية بحقه من دون أن ينذروه خطياً بذلك.
وأحسب أنّ الاشكالية التي تتجدد من تلقاء نفسها لدى الكاتب الصحافي على وجه التحديد، وتتسع عنده أكثر فأكثر، في زحمة الآراء المطروحة من حوله، سيما وهو يفاضل بين عناوين موضوعاته المثارة في المجال العام، هي أنه صاحب موقف في المقام الأول، لذلك هو حين يبسط رأيه، يكون كمن يكتب نفسه، أي أنه ينظر في مرآة ذاته أولاً، ويقارب مستوى التوقعات لدى المخاطبين بمطالعاته ثانياً، ثم يقدّم قراءته الموضوعية لمكونات المشهد، قبل أن يعرض خلاصة رأيه من دون مجاملة، ويعرب عن موقفه المستقل بشجاعة.
بكلام آخر، ليس الكاتب قلم حبر لا لون ولا طعم له، ولا هو حيادي بالضرورة الموضوعية إزاء ما يدور في محيطه، إن لم نقل إنه منحاز لرؤيته، أمين على فكرته، محارب في الدفاع عن وجهة نظره، التي قد تروق لهذا وقد تستمطر شآبيب الغضب من لدن ذاك. وبالتالي، من نافل القول، بل ومن لزوم ما لا يلزم، اتهام الكاتب بأنه يؤثر هذا الفريق قبالة ذاك، وينتصر لهذا الرأي ضد ذلك، فهذه صفة الكاتب أساساً، وميزته النسبية، وتميّزه المهني عن معدّي التقارير الإخبارية ورواة الأحداث الجارية، التي تُنضّد كما هي من دون تدخلات أو تحيّزات، وحتماً من دون وجهات نظر مسبقة.
وليس أدلّ على ذلك من أن القراء حين يؤثرون كاتباً بعينه، ويحرصون على مطالعته بانتظام، فإنهم، في واقع الأمر، يؤثرون صاحب الرأي المتسم بالشجاعة الأدبية والاستقامة السياسية، رجاحة العقل وسعة الأفق، على غيره من الكتّاب الأوادم (جمع آدم)، أولئك الذين يبحرون في المياه الراكدة قليلة العمق، يعمّمون المغزى ويبعّضون الإشارة، وذلك كي لا يُغضبوا أيّاً من الفرقاء في السجال، حتى أنّ الصحف ذاتها لا تميل إلى استضافة مثل هؤلاء الكتاب المحايدين في زمنٍ لا حياد فيه، بل تحرص على احتضان كلّ ذي نبرة قلم لا يتثاءب، وكلّ صاحب رأي لا تأخذه في الحق لومة لائم.
إزاء ذلك كله، لا محل من الإعراب لتعليق قارئ يتهم فيه كاتباً بالانحياز، ويصفه باللا موضوعية، ويطالبه بالحياد، إذا ما أتى السياق على غير هوى القارئ نفسه، المتمترس، إن لم نقل المتعصّب لرأيه الخاص، أو المتمسّك بموقف سبق أن اتخذه حيال اليوميات المتداولة بين الناس. ففي الأصل، الكاتب يكتب نفسه، يعبر عن ضميره، وينسجم مع منظومة قيمه واعتباراته، ويقول ما عنده من رؤية شخصية، حيال استخلاصاتٍ توصل إليها بقناعاته المستقلة، وتقييمات ينشرها على الملأ بجرأة، وهو يدرك سلفاً أنّه لن يرضي جميع المخاطبين بوجهة نظره، هؤلاء الذين باتت أعدادهم، في زمن الصحافة الإلكترونية، تناهز مئات الآلاف في مختلف بلاد العالم.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي