لمن يرفضون المقاومة... ما رؤيتكم؟

01 نوفمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

تستمرّ حكومة الاحتلال في استثمار الغطاء الدولي الأميركي لتحقيق أهدافٍ تتعدَّى الردّ على هجوم 7 أكتوبر (2023)، ولتحقيق أهداف مبيَّتة لتصفية القضية الفلسطينية، وفرض نفسها على المنطقة العربية بنسختها الجديدة، دولةً يهوديةً لا تقبل بأيِّ كيان فلسطيني، أو بالشعب الفلسطيني، أو بأيِّ قوة قد تعوق أو تهدِّد (ولو مستقبلاً) تلك الطموحات الواسعة الأحادية.

وبالدعم الأميركي المالي والعسكري، وبالتأييد الداخلي الكافي، تبدو إسرائيل قادرةً على تحمُّل هذه الوتيرة من الخسائر الاقتصادية، وفي أرواح جنودها. وفي المقابل، لا تقتصر على استهداف التشكيلات القتالية المقاومة في غزّة ولبنان، وغيرهما، بل إنّها، وبالذات في قطاع غزّة، ثمّ في لبنان، تعمل لتدمير الحياة في البنية الاجتماعية، ومرافق الحياة كلّها، من مستشفيات، وحتى شهود تلك الجرائم المستطيرة من صحافيين، وناشطين، في وقت لا تتعدَّى فيه التدابير الدولية (كالمساعدات الغذائية والطبّية، وحتى القضائية متمثّلة في الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وحتّى المحكمتين الجنائية والعدل الدوليتين) إجراءاتٍ مصاحبةً لا تقوى على وقف المجازر وحرب الإبادة الممنهَجة، بقتل المدنيين بالآلاف والتجويع والحرمان من العلاج؛ حتى الموت، وعلى مرأى ومسمع من العالم، وبذرائع "وجود مسلَّحين"، من دون أن تنتظر أن يصدِّقها العالم، أو لا يصدِّقها، تمضي في هذه الحرب المطلقة، متعجّلة الأهداف، ما دامت الفرصة سانحةً، والغطاء الأميركي مفتوحاً، في غزّة كما في لبنان.

فيما هذه المنظومة الدولية (العربية) تستبطن هدفاً متقارباً، هو إقصاء هذه الأداة المقاوِمة من الصراع، مع ما يستتبعه ذلك من حرمان الفلسطينيين والعرب من أيٍّ من أدوات الضغط. والسؤال للعرب المتناغمين مع هذه الحالة: ما مقترحكم البديل لتحصيل حدٍّ أدنى من الحقوق الفلسطينية والعربية من أنياب حكومة بالغة التطرّف واليمينية، لا توارب (ولا تسترضي في ذلك حتى الخطاب العربي الرسمي العقلاني "التنويري") في إعلانها هذه البلاد أرض إسرائيل التوراتية، لا تفاوُضَ عليها، ولا على هُويَّتها، ولا فرصة مستبقاة لعيش شعب آخر، بوصفه جماعة، إلا أن يعيشوا أفراداً خاضعين؟ هل تقدَّمت جهودكم خطوة واحدة إلى الأمام سوى مصالحات انفرادية تقبل إسرائيل بما هي عليه، من دون أيِّ التزام فعلي، أو حتى قولي، بوقف خطة ضمّ الضفة الغربية؟ هل احترمت حكومة بنيامين نتنياهو المبادرة العربية للسلام، وهي تعرِض على دولة الاحتلال التطبيع الكامل في مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلّة عام 1967؟ وكيف سيكون شكل الأرضية التي تتعاملون مع تلك الحكومة وحلفائها على أساسها، بعد هذه التحوّلات العميقة كلّها في إسرائيل؟

أصحاب الهجوم "العربي" على حركات المقاومة وخيارها، لم يفصحوا لنا عن رؤيتهم للصراع، اللهمّ إلا نبذ المقاومة، لا المقاومين، والهدوء التام

الحاصل أنه فيما ينصبُّ الهجوم "العربي" على حركات المقاومة وخيارها، لا يتذكَّر أصحاب هذا النهج أن يُفصحوا لنا عن رؤيتهم للصراع؟ اللهمّ إلا نبذ المقاومة، لا المقاومين، والهدوء التام. قد يقال إن الخيار هو تعزيز صمود الفلسطينيين في أرضهم، لكن هذا الصمود يجرى استهدافه على نحو حثيث، يوميَّاً، بل يجرى خنقه، حتى وإسرائيل منشغلة في حرب تتوسَّع، كما تُظهر اعتداءات المستوطنين على أي وجود فلسطيني أو نشاط حياتي لهم في أراضيهم، وتحديداً في المناطق المصنَّفة "ج"، حيث الموارد الزراعية وغيرها. وذلك كلّه يحصل برعاية جيش الاحتلال، وحكومة الاحتلال. هذا غير حملات الاعتقال اليومية، واقتحامات المدن والبلدات الفلسطينية، غير الإذلال الذي لا يأمن تحاشيه أحد من الشباب والشابّات، وكباراً أو صغاراً. أمّا المسجد الأقصى، فلا تكفُّ دولة الاحتلال عن انتهاكاته، لتكريسه مكان عبادة لليهود، وتقليص الوجود الفلسطيني الإسلامي فيه. وبالمختصر، تشعر حكومة الاحتلال وحلفاؤها من جماعات دينية قومية مشهود لها دولياً بالتطرّف والعنصرية، أنه قد خُلِّي بينها وبين فلسطين، وأنها أصبحت صاحبةَ القرار في الأرض، وعليها أن تتصرّف بروح المنتصر الذي يفرض شروطه.

وأمّا السلطة الفلسطينية التي قامت بموجب اتفاقية أوسلو، فتعمل حكومة نتنياهو على إعادة صياغتها (من دون أن تبدو من تلك السلطة ممانعة فعلية)، تأكيداً لتنصُّلها من اتفاقية أوسلو (1993) بوصفها تنصُّ على مرحلة انتقالية؛ قد تفضي إلى دولة فلسطينية. هذه الاحتمالية أن يفضي وجود السلطة الفلسطينية إلى دولة، ولو منزوعة السلاح، منقوصة السيادة، لا تقبل بها حكومة نتنياهو، ويؤكّد هذا عملُها لإجهاض أيِّ حلٍّ في قطاع غزّة يسمح بأن يُبنى عليه خيار دولة فلسطينية.

يرتدُّ الهجوم على المقاومة إلى جملة أسباب، منها التدمير الواسع الذي لحق بالقطاع، ثمّ بلبنان، وإلى علاقة حركات المقاومة بإيران، وإلى أسباب فكرية مرجعية. مع أن هؤلاء المُشنِّعين على المقاومة لتلك الأسباب يتحمَّلون مسؤوليةً ليست هيِّنة إزاء أكثر تلك الأسباب. ذلك حين ساعدوا حكومة الاحتلال في الاطئمنان إلى استمرار العلاقات العربية على ما هي عليه، وربما أفضل، مهما فعلت في غزّة. وأما العلاقة بإيران، لا سيّما علاقة حركة حماس، فلم تكن علاقة التبعية، أو الانخراط في الصراعات الإقليمية، فيما لا ترى تلك الدول العربية نفسها في إيران دولةً تتطلّب المقاطعة أو العداوة المطلقة.

المُشنِّعون على المقاومة يتحمَّلون مسؤولية التدّمير حين ساعدوا الاحتلال في الاطمئنان إلى استمرار العلاقات العربية، مهما فعلت في غزّة

يبقى السبب الفكري، وعلاقة حركة حماس بجماعة الإخوان المسلمين، العدوّ اللدود لبعض تلك النُظم العربية. وهنا السؤال: أَظَهر لكم خطرُ "الإخوان المسلمين" أعظمَ من خطر إسرائيل؟ ومن ناحية أخرى، هل حصرت "حماس" نفسها في إطار الإخوان المسلمين، ألم تجعل للاعتبارات الفلسطينية الأثر الأكبر في تصوُّراتها ومواقفها؟

لقد قاربت المسألة أن تكون كيدية، إذ لو تمكَّنت "حماس" وفصائل المقاومة من تحصيل أيِّ شكل من أشكال النصر، لأَظْهَر ذلك تلك النُّظُمَ وخياراتِها في صورة المُفَوَّت المُتجاوَز العقيم، فضلاً عن استدعاء ذلك كلَّ المذخور الشعبي عن معاني العزّة والذلّ، والنجاح والفشل، ساعتها سيكون استمرار تلك النظُم أصعب، وسيتآكل ما تبقَّى من شرعيتها، حتى لدى شعوبها، لما لا تزال تشغله فلسطين في الوجدان العربي العام من مكانة راسخة.

ومع ذلك، ثمّة مخاطرة تاريخية وأخلاقية كبرى أنْ تظهر هذه الأطراف مصطفَّةً في خندق العدوّ العامل على قهر، ليس الفلسطينيين فقط، بل الشعوب والأمّة كلّها، مع أن دروس التاريخ لا تسعف كثيراً في الاطمئنان إلى هذه المقاربة القهرية، إلّا إلى أمَد قد لا يطول.