لماذا يعشقون السفينة الهولندية؟

لماذا يعشقون السفينة الهولندية؟

03 ابريل 2021

السفينة "إيفرجيفن" في قناة السويس قبل تعويمها (24/3/2021/ فرانس برس)

+ الخط -

ممدداً جسده، ومتكئاً على مرفقه، وحاملاً ابتسامة ثقةٍ على الطريقة التي يسمّيها المصريون "انجعاصاً". ليس رجل أعمال أنهى صفقة مليونية، بل هكذا ظهرت لقطة العامل، أحمد عزت، أحد أبطال تعويم الناقلة "إيفرجيفن" في قناة السويس، والتي تم تداولها ملايين المرات.

أحمد عزّت، الذي كان يرتدي ملابس عمل متّسخة بالشحوم، حكى، لاحقاً، أن الصورة تم التقاطها فور نجاح التعويم، وكان منبع سعادته أنه، بعد 17 ساعة من العمل، كانت مهمته الأخيرة إصلاح حبل الشد الخاص بالقاطرة بركة. وفور نجاحه في ذلك، ودخول القاطرة العمل، نجحت المناورة وتم تحريك الناقلة.

في أحاديث عزّت وغيره من مئات العمال والمهندسين الذين شاركوا على متن تسع سفن قطر وسفينتي "تكريك"، فضلا عن مقاطع الفيديو التي التقطها المشاركون عفوياً، نشهد بوضوح أن الأمر لم يكن مجرّد وظيفة يقومون بها، بل كان شعوراً شخصياً حقيقياً. ما يفعلونه واجب وطني شخصي، والنجاح هو إنجاز شخصي أيضا.

يعرف تماما كل من زار محافظات القنال صدق ذلك، حيث يتعاملون مع إرث مقاومة الاحتلال الإنكليزي، ثم الاحتلال الإسرائيلي، ومعارك القنال السياسية والعسكرية، باعتباره إرثاً شخصياً مباشراً. هناك يغدو التاريخ واقعاً ملموساً، لا قصصاً بعيدة، واقعاً متجسّداً في أشخاص وأماكن، حيث في كل أسرة شهيد أو محارب قديم أو تعرّضت للتهجير على الأقل.

وكان من اللافت في تداول أسماء قاطرات الشحن والكراكات المصرية أنها تحمل أسماء ذات تاريخ بارز. على سبيل المثال، تحمل الكراكة "مشهور" اسم المهندس مشهور أحمد مشهور، والذي كان أحد ثلاثة كلفهم جمال عبد الناصر بالسيطرة على شركة القنال إبّان خطاب التأميم في 1956، ونجح مع زملائه في تعويض انسحاب المرشدين الأجانب، وترقّى في الهيئة حتى تولى رئاستها، وتوفي عام 2008. وبالمثل، تحمل الكراكة "يونس" اسم مسؤول ثانٍ عن التأميم، المهندس محمد يونس. هذا هو التراث المؤسّسي الذي يحمله عاملو الهيئة.

لذلك، كان تعامل بعض المعارضين الذين اندفعوا إلى التسفيه من احتفالاتٍ شعبيةٍ، لا رسمية، أقل ما يوصف به أنه فاقد للحِس الإنساني قبل السياسي. أصاب بعضهم هوسٌ عجيبٌ بترديد هستيريّ لقصة أن سفينة القطر الهولندية التي انضمت، في النهاية، وحدها التي حلت الأزمة. تجاهلوا حقائق بديهية، مثل تصريحات رئيس شركة "بوسكاليس" الهولندية التي تولت التعويم بأن العملية قد تستغرق أسابيع. كما أن من المهم التأكيد على أن الشركة انضمّت بعدما كانت هيئة قناة السويس وضعت الخطة بالفعل، لم يكن الغربيون هم "العقل" ونحن فقط "العضلات"، تحمل هذه الصورة عنصريةً مضادّة مذمومة. .. بل إن الاستعانة بالخبرات الدولية الصحيحة، وبالسرعة الواجبة، فضل يُنسب لمن فعله. سئمنا من الغرق في عنتريات المؤامرة العالمية والشوفينية الفارغة. ومن المعهود أن يتم تقديم دعم دولي في حالات الأزمات الكبرى لمختلف الدول، كبرت أو صغرت.

من المفهوم جدلية نسب الإنجازات لنظام غير ديمقراطي، يستخدمها في "بروباغندا" لتلميع الحاكم وتعزيز ترسّخه. لكن بالمقابل، يخبرنا الواقع أولاً أن حتى أعتى الأنظمة دكتاتورية قد تتماهى، في لحظة ما، مع الأهداف الوطنية. ولدينا قائمة طويلة من معارضين كانوا يؤيدون سياسات عبد الناصر الخارجية من داخل سجونهم، مع استمرار رفضهم سياساته الداخلية.

وعلى صعيد آخر، فإن وضع تناقضٍ بين الأنظمة الاستبدادية وتحقيق أي عمل ناجح بالمطلق تصور غير عقلاني، يكذّبه الواقعان، العالمي والمحلي. في تاريخ مصر القريب، أنجز نظام حسني مبارك حملة بالغة الضخامة والتعقيد، للتخلص من مرضي شلل الأطفال والبلهارسيا، كما أنجزت السلطات المصرية، أخيرا، حملة علاجية ناجحة ضد مرض "فيروس سي" الكبدي.

وحتى على صعيد التوظيف السياسي، فإن خطابا ينسب الفضل لمستحقيه هو خطاب يحمل دوراً تقدمياً سياسياً. الشعوب الإيجابية سياسياً يجب أن تثق في قدرتها على الإنجاز، وليس ترسيخ صورة دونية وعاجزة على طريقة من يردّدون، بصفاقة، أوصافاً، منها "شعب العبيد" و"شعب البيادة". إذا كنتَ تحتقر شعبك، فكيف تحلم يوماً بأن يناصرك، فضلا عن تأييده حكمك؟