Skip to main content
لماذا لا تثور الشعوب بعد المذابح؟
ضحى عبد الجواد

اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي في سبتمبر/ أيلول 2019 بفيديوهات منسوبة إلى ممثل مغمور عمل في المقاولات وأعمال البناء الخاصة بالرئاسة المصرية؛ لم تكن جماهيرية الفيديوهات مرتبطةً بشخص القائم عليها بقدر ما ارتبطت بمحتواها الناقد والفاضح لرأس السلطة، فقد وجد محمد علي الذي قدّم نفسه معارضًا من حاشية النظام المالية نفسه في محل دعوة الجماهير إلى الخروج والثورة على الظلم الذي لم يقتصر على الإسلاميين، وإنما يشمل الناشطين في التيارات الليبرالية واليسارية. استمرّت فيديوهات محمد علي ودعواته إلى التظاهر بشكل متفرّق عامًا. ومع ذلك، لم تشهد مصر ما يمكن أن يشكل نواة لأي حراك شعبي محتمل! وكانت مصر قد مرّت في عام 2013 بنقطة تحوّل مركزية، قامت على مذبحةٍ اعتبرت الكبرى في تاريخ البلاد الحديث، من حيث عدد القتلى والجرحى. وعلى مدار سبع سنوات لم تنجح أي قوة معارضة داخلية أو خارجية في قيادة حراك شعبي مدفوع ضد تلك المظالم، ومن ثم نجد أنفسنا أمام السؤال: لماذا لم يخرج المصريون للتظاهر والثورة على هذا النظام؟ 

الحقيقة أن العلاقة بين الحراك السياسي وعنف الدولة تجاه الجماهير محل جدال نظري داخل علم الاجتماع الغربي، فالمتفق عليه أن الشعور العام بالظلم، وغياب قنوات التغيير، ينشئان وعيًا جماعيًا مشتركًا، من شأنه أن يحرّك الجماهير ناحية التظاهر، سواء كان التظاهر سلميًا أو عنيفًا. يرتبط هذا الحراك بعدة عوامل أخرى، منها توفر الزعامة أو القيادة القادرة على الحشد، أو حدوث حدثٍ عنيفٍ ومؤثرٍ من الدولة من شأنه تحريك الجماهير ضدها، ففي الحالة الثانية يتحوّل عنف الدولة في لحظة تاريخية مواتية من الوعي السياسي إلى نقطةٍ مفصليةٍ في مسار تطور الحراك الشعبي ضد السلطة. 

الشعور العام بالظلم، وغياب قنوات التغيير، ينشئان وعيًا جماعيًا مشتركًا، من شأنه أن يحرّك الجماهير ناحية التظاهر، سواء كان التظاهر سلميًا أو عنيفًا

يمكن النظر إلى ما عرف بموقعة الجمل في فبراير/ شباط 2011 في ميدان التحرير في القاهرة باعتبارها نقطة تحول رئيسية في تطور مسار الثورة المصرية، حيث أدّت إلى تآكل الشرعية الأخلاقية لنظام حسني مبارك، وإلى مزيد من التعاطف الشعبي مع المتظاهرين وقتها. وبالقياس، يمكن أن نتساءل لماذا لم يحدث ذلك في أعقاب مذبحة رابعة العدوية وميدان النهضة صيف 2013. ألم يكن مقدار العنف وعدد الضحايا كبيرًا بما يكفي لقيام حالة مشابهة؟

في دراسة ميدانية شملت 31 دولة في أفريقيا وآسيا، نشرت نتائجها في العام 2004، خلص الباحث الاجتماعي، رونالدو فرانسيسكو، إلى أنه على عكس المتوقع، هناك علاقة سلبية بين وقوع المذابح وقوة الحراك السياسي، فأغلب الحالات التي عاصرت عنفًا شديدًا، يصل إلى درجة المذبحة أو الإبادة لجماعةٍ عرقيةٍ أو سياسيةٍ معينة، لم تشهد موجات حراك قوية وطويلة، واقتصر الأمر على تظاهراتٍ سرعان ما احتوتها السلطة أو وأدتها، ومصر ليست حالةً استثنائيةً في هذا الإطار، فالنظم السياسية، تحديدًا في هذه الأوقات، تتشكل لديها دافعية أكبر لامتصاص الغضب الشعبي وتحويله من خلال إجراءات استثنائية، أولها محاولة كسر التعاطف الشعبي مع الفئة المتعرّضة للعنف من خلال شن حرب إعلامية وثقافية على خطاب هذه الفئة ورموزها، قبل الشروع في اتخاذ أي خطوات عنيفة. ثانيًا تبرير فعل العنف والإبادة وتفسيره بشكلٍ يخفف من مسؤولية الدولة. ثالثًا إيجاد غطاء قانوني شرعي لفعل الدولة العنيف، وأخيرًا القبض على الرموز والقيادات المهمة التي من شأنها إدارة التظاهرات وتنسيقها.

لم تمتلك الحالة المصرية أياً من المقومات المطلوبة للدفع بحراك سياسي ناجح

يرتبط الحراك الشعبي، في أعقاب وقوع عنف سياسي قوي من جهاز البوليس، بعدة مسائل، أُولاها شعور المجاميع أو التيارات المختلفة من الشعب بأن هذا العنف يمثل ظلمًا صارخًا وخروجًا عن القانون. وثانيًا، وجود قنواتٍ للتواصل بين المجموعات التي تعرّضت للعنف وبين غيرهم من التيارات الشعبية. وتنشئ هذه الحالة صراعًا أخلاقيًا بين السلطة والجماهير، من شأنها أن تشعل الحراك الشعبي وتوجّهه، بل وتحدّد طبيعته أيضًا، إن كان سلميًا أو عنيفًا. لكن الأمر لا يكون هكذا دائمًا في حالة وقوع المذابح وحروب الإبادة. وبالنظر إلى الحالة المصرية في أعقاب 2013، كان عنف الدولة موجهًا بالأساس تجاه الإسلاميين والدائرة الأولى للمتعاطفين معهم. ذلك الاستهداف الخاص وتزامنه مع وجود حالة استقطاب سياسي حاد، كان من شأنه إضعاف قوة التظاهرات، ووقف قنوات التواصل بين القوى السياسية المختلفة، وهو عكس ما تحقق على مدار الثمانية عشر يومًا الأولى من تاريخ الثورة المصرية 2011، فبعض رموز التيارات الليبرالية واليسارية (ولا يجوز التعميم) كان لديها رغبة أو سعادة كامنة تجاه ما حدث، باعتباره فرصة ذهبية لتنحية الإسلاميين، وشغل مساحتهم السياسية. ومن ثم تم تقديم المعركة بعد مذبحة ميدان رابعة باعتبارها معركة الدولة مع الإسلاميين، أو في رواية السلطة معركة النظام مع حفنة من الإرهابيين الخارجين عن القانون، ومن ثم، فالتعاطف يعني تعاطفًا مع إرهابيين وقتلة. وبذلك نجحت الدولة في كسب المعركة الأخلاقية، خصوصًا في الأعوام التالية. يضاف إلى ذلك أن الأداء السياسي للرئيس السابق محمد مرسي لم يكن يشفع له لإحداث تعاطف شعبي كاف للدفاع عن الحقوق السياسية للإسلاميين.

فكرة التظاهر نفسها أصبحت فكرةً منهكةً ومستهلكة في العقل الجمعي المصري 

ومن ثم فالحالة المصرية لم تمتلك أيًا من المقوّمات المطلوبة للدفع بحراك سياسي ناجح، فلا توجد هويةٌ سياسيةٌ جمعية، ولا حد أدنى من التوافق بين التيارات السياسية، كما أنه لا توجد رموز قادرة على حشد الجماهير، والأهم من ذلك أن فكرة التظاهر نفسها أصبحت فكرةً منهكةً ومستهلكة في العقل الجمعي المصري. فماذا بعد التظاهر؟ إلى أي مدى يمكننا الاستمرار في فعل التظاهر؟ وما هي المطالب؟ وما الذي يدفع السلطة للرضوخ لها؟ كل هذه الأسئلة التي لا تجد إجابة واضحة لدى أي تيار سياسي (ومحمد علي) تجيب بوضوح عن سؤال: لماذا لم يخرج المصريون للتظاهر؟