لماذا فشل مشروع حوار الأديان؟

لماذا فشل مشروع حوار الأديان؟

10 اغسطس 2021

(عبد الفتاح بلالي)

+ الخط -

ما الهدف من حوار الأديان في الأصل، حتى نحدّد معالم فشل الجولات أو المحاولات السابقة من نجاحها؟ وما المقصود من سياقات هذا الحوار؟ وهل يكفي أن يقال تعزيز التعايش في العالم ومحاربة العنف والكراهية، عنف من على من وكراهية من لمن؟ هل هو معيار إنساني مطلق، ما هي محدّداته لمعرفة الكتلة الإنسانية فيه .. دعونا نحاور هذا الحوار لنفهم الحقيقة فيه، ونزن مسيرته معرفياً.
حضرت هذه الفكرة في أزمنة مختلفة من التاريخ الإنساني، غير أنها كانت تعتمد غالباً على جدل المناظرة، وليس المشاركة بين الموافقات وفهم المختلفات، وقد نزعت الفكرة إلى القهر الحِجاجي، لا البحث عن المركز الأخلاقي للفكرة، وهو سوقٌ لا يزال رائجاً وله ميدانه المحتشد، بل إن الولايات المتحدة الأميركية، في ذروة صعود حداثتها الرأسمالية، تصدرت منظمات التبشير الإنجيلي الجدلي التي تهاجم المعتقدات الأخرى بصورة ضمنية أو مباشرة، أو تتولى التجديد لدعم انتصار فكرة المسيح الغربي الذي خُلقت أميركا الجديدة تحت عباءته، بما فيها إبادة السكان الأصليين.
وعلى مستوى أوروبا، ونحن نتحدّث عن عشرات الملايين من الأتباع، وميزانيات مليارية بين أوروبا وأميركا الشمالية، فهناك منظمات ضخمة وشخصيات يمتلك بعضها أكبر من ميزانيات بعض الدول، تنشط في العالم الجنوبي لصالح المسيح الغربي، كما تنشط في تثبيت الفكرة الإيمانية للشعوب الغربية، وهي حاضرةٌ بقوة في التأثير على المسرح السياسي والاجتماعي.

أحد مسارات حوارات الأديان عملية مداهنة سياسية قدّمتها الأنظمة الرسمية العربية، لصالح القوة لكسب تأثيراتها على أنظمتهم أو تحييدها

وعلى الرغم من حضور الفكرة الإلحادية وتطوّراتها الجندرية، إلا أن ذلك كله لم يوقف عجلة التحالف بين الحداثة الرأسمالية والتبشير المسيحي السياسي والاجتماعي. ومن العبث القول إن هذه الماكينة الضخمة المتّحدة على الأرض تقوم على استقلالٍ متباين بين الأيدولوجيتين، فهي جزءٌ من التمكين السياسي القديم وتقاطعاته الضخمة، منذ صعود الكولونيالية الغربية، على الرغم مما يبرز من تباين فكري بينهما. ولدينا في حاضر العالم الإسلامي منابر أقلّ إمكانات بكثير تولت الردّ أو النقض لأفكار هذا التبشير الغربي في آسيا وفي أفريقيا، وعلى نطاق محدود في الغرب، لكنها لا تُقارن مطلقاً بإمبراطوريات التبشير الضخمة، والآلية التنفيذية لتسخيرها للقوة الغربية الحديثة.
والإشكال هنا أن أحد مسارات حوارات الأديان هو عملية مداهنة سياسية قدّمتها الأنظمة الرسمية العربية، لصالح تلك القوة لكسب تأثيراتها على أنظمتهم أو تحييدها، في حين أن هذا النظام أو ذاك لا تعنيه الحقوق الإنسانية والمدنية للأقليات الدينية في وطنه، وكل برنامجه يقوم على مشاريع تُزيّن صورته في الإعلام الغربي والمنظمات الكنسية ذات التأثير السياسي، ثم ضُمت إليها المؤسسات الدينية اليهودية، للهدف ذاته تقرّباً من إسرائيل أو من قوتها المؤثرة في الغرب .. فهل هذا ميدان يخلق أفق تسامح وتعايش إنساني؟ هل تغيرت المعادلة في العلاقة بين الشرق والغرب في الأرض المشتركة؟ هل قُلصت أرضية العنف والكراهية من اليمين العنصري الغربي المتطرّف، ومن تطرّف الغلو الديني العسكري والفكري في العالم الإسلامي، أم أن الأمر اليوم هو مجرّد ضبط ميداني مخابراتي وعسكري، حَجّم مساحة العنف، خصوصا بعد نموذج توحش "داعش" و"بوكو حرام" وغيرهما، وأعمال الإرهاب التي صُبّت على أقليات دينية كما نُفذت على المسلمين؟

هناك دلائل واقعية، وخصوصا في حاضر العالم الإسلامي، تثبت تفاعل الشعوب مع مواقف العدل والتعايش الإنساني

وفي الوقت ذاته، هناك تطرّف ديني أو علماني يصعد غربياً، ضد أتباع الإسلام وضد حاضر العالم الإسلامي في أوروبا والولايات المتحدة، ولم تغير مؤتمرات الحوار شيئاً من ذلك. ولسنا هنا نهدم لقاءاتها بالجملة، ولا كل مضامين بياناتها أو منابرها، ولكن أكثرها، في الحقيقة، خضع لمواسم كرنفالية توظف سياسياً من دون جدوى عملية، لتحديد الهدف المشترك.
ما هو الهدف المشترك؟ تقول هذه المؤتمرات إن هدفها تخفيض الكراهية في العالم، ومحاربة العنف السياسي فكرياً، وذات هذه الأنظمة العربية التي تتابع الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي كثيراً من مؤتمراتها، وتشارك في التأثير على جدول مواضيعها، كما هو النظام السياسي الغربي، تمارس الإرهاب والعنف السياسي ضد أبرياء تحت حجّة الأمن، فهل هذا يخلق جسراً حيوياً بين الشرق والغرب، تتفاعل ثقافته بين الأمم، وينتج فكر السلام الإنساني الذي يشمل الجميع، ويحاصر العنف.
الحقيقة أن لا نتيجة تذكر في هذا السياق، مع أن هناك دلائل واقعية، وخصوصا في حاضر العالم الإسلامي، تثبت تفاعل الشعوب مع مواقف العدل والتعايش الإنساني التي تُنقل لهم عن تضامن المجتمعات الغربية مع الضحايا المسلمين، وتفرزها عن تطرّف الحكومات الغربية والمجتمع اليميني العنصري.

المهمة الجديدة التي تغيب عن عالمنا اليوم، كيف نخلق منصّات حوار فكرية بين الأديان لأهداف مشتركة

الفشل هنا في الشكل والمضمون معاً، فمن يدير غالب هذه المنابر في الشرق والغرب غالباً هو من يدير مساحة التطرّف أو يسمح لها بالعبور، أو يخلق لها أيقونات نفوذٍ سياسية وإعلامية، ولا تتحمّس هذه المؤتمرات والمناشط، لطرح مواضيع الإشكال الكبرى بين ثقافات الشعوب على طاولة حوارات مستقلة، تبحث عن مسار أخلاقي وقيمي، يحترم خلافاتها عبر موازين قياس موضوعية. وهنا، المهمة الجديدة التي تغيب عن عالمنا اليوم، كيف نخلق منصّات حوار فكرية بين الأديان لأهداف مشتركة، مع ملاحظة مهمة جداً أن البنية الإسلامية الفلسفية واسعة الأفق مدنياً وعمرانياً، وليست خطاباً روحياً دينياً فقط، وهذه إشكالية تغيب عن العقل الغربي، كما أن المركز الأخلاقي المشترك في الفلسفة يجب أن يكون عمود التوازن وضابط البرنامج الحواري ومرجعيته التي تحدّد مسارات الحوار وتقييم نتائجه على الأرض.
هنا سنجد أننا بحاجة إلى تحديد المؤسِسات القيمية، ما هو المشترك فيها وما هو المختلف وكيف نُفعّل المشترك وننظّم المختلف، فإذا كانت مرجعيتنا القيم الحقيقية، لا التي صنعتها الحداثة الرأسمالية وقهرت بها الشعوب، سنصل إلى أرضيةٍ صلبة تُبعث بها رسالة السلام من موقع مستقلٍّ عن التطرّف الغربي والشرقي، يطمئن لها الفرد وتنشأ الأجيال مقتنعة بندائها الخالد، خُلقنا شعوباً لنتعارف ونتعاون لا لنتقاتل.