Skip to main content
لماذا ظلّ سيف القدس في غمده؟
عيسى الشعيبي

قبل نحو عام، تسوّد بياض هذه الزاوية بقراءةٍ متمعّنةٍ لمفاعيل معركة سيف القدس، التي كان قد مضى على انطلاقها نحو ستة أسابيع مشحونة بانفعالات حارّة وتقديرات موقف متفاوتة، بين من رأى فيها نصراً لا سابق له في تاريخ الحرب ضد الاحتلال، غيّرت قواعد اللعبة، وأرست خطوط اشتباك جديدة، كونها المعركة التي بنت أول رأس جسر بين غزة والقدس، وأوجدت ظهيراً للمرابطين في بيت المقدس، وبين من قارب مجريات مواجهة الأحد عشر يوماً بصورة عقلانية، وعواطف مفعمةٍ بالإعجاب والتعظيم لروح مقاومةٍ لا تعرف الانكسار.
كان عنوان هذه الزاوية في حينه يتساءل "من أعاد سيف القدس إلى غمده؟"، في إشارة إلى ضياع لحظة تاريخية نادرة لتدشين مرحلة سياسية فلسطينية جديدة، تُنهي حالة الانقسام المديدة، وتصنع رافعة كفاحية قوية، على خلفية مشهدٍ جماهيريٍّ موحّد على جانبي الخط الأخضر، وصورة نضالية متماسكة في الداخل والخارج، كانت تعد بانتفاضة ثالثة، والانتقال من حالة الدفاع الساكن إلى وضعية الهجوم الشامل، لولا تلك الحسابات الفئوية المعهودة، والأنانية السياسية المقيتة، ناهيك بالاستعجال في قطف الثمار قبل نضوجها، والاعتقاد أن مفاعيل "سيف القدس" تُماثل مخرجات معركة الكرامة التي رفعت حركة فتح إلى سدة قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية.
بعد أيام معدودة على طرح التساؤل عمّن بدد تلك اللحظة الثمينة، كان قادة الفصائل يحتشدون قرب السياج الفاصل، تحت شعار "سيف القدس لن يعود إلى غمده"، الأمر الذي بعث في النفس شعوراً بالرضا، وحسّاً مفاده بأن صوتاً من العالم الافتراضي قد وجد له صدى في الواقع الحقيقي لقطاع غزة. كما تكرّر مشهدٌ مشابهٌ قبل نحو شهر، عندما وقف قائد "حماس" في القطاع المحاصر، يحيى السنوار، وسط جمعٍ من قادة الفصائل، وخلفه يافطة تؤكّد أن سيف القدس لن يعود إلى غمده، قائلاً، بين ما قاله وتوعد به، إنه إذا ارتكب الاحتلال حماقة إزاء المسجد الأقصى، في يوم مسيرة الأعلام السنوية، فإن أول صلية ستنطلق من غزة سيبلغ عددها 1111 صاروخاً، وهو ما رفع المعنويات والتوقعات إلى عنان السماء.
إثر ذلك التعهد الذي قطعه السنوار على نفسه، وهو رجلٌ شجاعٌ على أي حال، تصاعدت لهجة الوعيد على ألسنة الشيوخ الشباب في غزّة، وعلت التحذيرات بزلزلة الأرض، وقلب الطاولة، وتفجير المنطقة بأكملها، وقالوا لنا إن هناك غرفة عمليات مشتركة في حالة انعقاد دائم، تضمّ حزب الله والحشد الشعبي ودمشق وطهران (ماذا عن الحوثيين؟) كما أعلنوا النفير العام وشدّ الرحال، الأمر الذي طيّب النفوس الملتاعة في أكناف بيت المقدس، ووضع الناس في حالة ترقّب لدقّات ساعة خلاصٍ أزفت بعد طول انتظار.
غير أن مسيرة الأعلام الصهيونية مضت حسب موعدها، وكما كان مقرّراً لها، وعربد المستوطنون ورقصوا في الأقصى، وفي شوارع البلدة القديمة أكثر من أي يوم مضى منذ 1967، الأمر الذي زاد درجة الترقب للحظة ظهور الملثم الشهير أبو عبيدة، معلناً إطلاق دفعة الصواريخ الموعودة، ولمّا مرّ الوقت الثقيل من ذلك النهار الطويل، وكاد يخبو الضوء في فتيلة السراج العليل، انطلقت مسيرة شبابية قرب باب العامود، تحمل العلم الفلسطيني بتحدٍّ وعنفوان، تهتف بأعلى الصوت "يا سنوار خلّي القدس تولّع نار" لكن الصوت ظلّ بلا صدى.
ولعل السؤال الذي لم يبرح الأذهان طوال الأيام الفائتة، خصوصا لدى مريدي "حماس" خارج قطاع غزة، لماذا ظلّ سيف القدس في غمده، رغم الوعود القاطعة والعهود المعلنة على رؤوس الأشهاد؟
من المنطقي الافتراض أن نقاشاً ساخناً دار داخل الإطار القيادي في الحركة المتوعدة بالويل والثبور، إن جرت مسيرة الأعلام الصهيونية، وأن تبايناً وقع بين وجهتي نظر، الأولى دافعت عن الوفاء بالوعد، للحفاظ على صورة "حماس" المجاهدة، وتعزيز صدقيتها قوةً لا تعرف المساومة، ناهيك بتمتين الرابط الذي أقامته قبل عام بين القدس وغزة، والثانية جادلت، تحت ضغط التهديدات باغتيال القادة، وفي مقدمتهم السنوار، في ضرورات الموازنة بين القدرة والكلفة، وتمسّكت بخيار تحاشي مزيد من الدمار لمنازل فقيرة وأحياء لم تجر إعادة إعمارها في الحروب الأربع الأخيرة.
والحق، أن "حماس" غير مُلامة على رباطة الجأش هذه، والإمساك عن الانزلاق نحو حرب نتائجها معروفة سلفاً، غير أن الملامة المشوبة بالغضب وخيبة الأمل، أتت من الإفراط بالتهديد، وتعلية السقوف، والتلويح بعظائم الأمور، والتراجع عنها من دون شرح يحفظ ماء الوجه.