لماذا تحتاج سورية خطّة انتقال سريعاً؟
رغم مرور أكثر من ستة أسابيع على سقوط نظام الأسد، والارتياح العام الذي قابل به العالم التغيير في سورية (مع الإقرار بوجود هواجس وتحفظات لدى أطراف إقليمية ودولية عديدة)، ما زالت السلطة الجديدة في دمشق لا تملك تصوّراً واضحاً عن كيفية إدارة المرحلة الانتقالية، أو أنها، حال وجوده، لا تشارك السوريين به، والعالم. أهمية تقديم رؤية واضحة الآن للمرحلة الانتقالية تتأتى من أن الكثير يتوقّف على ذلك. فمن جهة، يشكّل وجود خطة انتقال واقعية، شاملة، وقابلة للتنفيذ، مصدر طمأنينة للعالم الذي سيقرّر، بناء عليه، ما إذا كان سيساعد الانتقال أو يعرقله، بما في ذلك، خصوصاً، الاعتراف بالنظام الجديد، رفع العقوبات، تقديم المساعدات، وكبح جماح التدخلات الخارجية المحتملة خلال المراحل الانتقالية. ومن جهة أخرى، وهذا الأهم، ربما، أن وجود مثل هذا التصوّر يعني بروز مسار واضح ينخرط فيه السوريون في بناء وطنهم بكل طاقتهم، وصولاً إلى مستوى طموحاتهم. يشكّل وجود هذه الرؤية، بهذا المعنى، الفرق بين أن نذهب باتجاه دولة قوية مزدهرة أو التحوّل إلى ثقب أسود في المنطقة، وساحة فوضى عارمة تشجع على التدخّلات الخارجية، تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى تفتيت البلد، وهذا أكبر تهديد تواجهه سورية في المدى المنظور، وفق ما دلّت عليه تجارب الآخرين.
خلال الثورات أو الصراعات الداخلية، تتراجع القدرات الدفاعية للدول، مرحليّاً، بسبب عمليات التطهير التي تقوم بها قوى النظام الجديد لتكريس سلطتها، وتطاول قوى النظام القديم وفلوله. هذا الضعف الظاهر في قوة الدولة، محلّ الثورة، يؤثر عادة في موازين القوى في النظام الإقليمي أو الدولي (في حال كانت الدولة مركزية فيه). ويحدُث التدخّل الأجنبي هنا لأنه يوفر "فرصة سانحة" لسببين:
أولهما، أن الدول الأخرى تفسّر ضعفَ الدولة الثورية غالباً بأنه فرصة لتحسين مواقعها تجاهها، إما بالاستيلاء على أراضٍ متنازع عليها، أو من خلال السعي للحصول على تنازلات دبلوماسية منها في لحظة ضعف. وهذا تحديداً ما تحاول إسرائيل فعله في الجنوب السوري عبر احتلال أراض سورية جديدة، قد تحتفظ بها، أو قد تستخدمها لاحقاً أداة تفاوض للحصول على إقرار من النظام الجديد في دمشق بشرعية احتلالها الأراضي التي سيطرت عليها في مرحلة سابقة (1967). تركيا أيضا تسعى إلى انتزاع تنازلات من دمشق في لحظة ضعف، من خلال إلحاحها على ترسيم الحدود البحرية معها في هذه المرحلة تحديداً، عسى أن تظفر بمناطق يُتوقع وجود ثروات باطنية فيها، وقد لا يكون ممكناً الحصول عليها في ظروفٍ مغايرة.
ثانياً، يمكن للثورات الاجتماعية أن تؤدّي إلى زيادة التنافس بين الدول الأخرى لتحسين مواقعها في النظام الإقليمي تجاه بعضها بعضاً. وقد يحدث ذلك بالاستفادة من عدم الاستقرار داخل دولة ثالثة لتغيير موازين القوى لصالح دولة معينة (مثل إقامة نظام صديق في الدولة الثورية أو معارضة إطاحة نظام صديق)، أو/ومنع الدول المنافسة من القيام بالأمر عينه. هنا، ومع احتدام حدّة التنافس بين تركيا وإسرائيل في ظل الفراغ الناشئ عن ضعف الدولة السورية، قد تعمد إسرائيل إلى التدخّل لمنع قيام نظام مركزي قوي صديق لتركيا في دمشق، إذا رأت فيه تداعيات سلبية على مصالحها.
في ظروف مغايرة، قد تتحرّك بعض الدول المجاورة، بداعي الخوف من تعاظم القدرات المحتملة للدولة الثورية، إن هي نجحت في تحقيق الاستقرار الداخلي بعد الثورة، وتهاجمها، فالدولة الثورية تملك عادة قدرات أكبر، ويمكنها حشد موارد أكثر مما كان عليه الحال في ظل النظام القديم. ويتيح حشد الطاقات، وتماسك نخبة الحكم الجديدة، وتفعيل بيروقراطية الدولة، وإحياء الروح المشتركة للأمة، لأنظمة ما بعد الثورة ممارسة درجة أكبر من الضبط والسيطرة على المجتمع. يثير هذا الوضع قلق البلدان المجاورة، ويقودها، في بعض الأحيان، إلى التحرّك على نحو استباقي لمهاجمة الدولة الثورية، قبل أن تستقر الأوضاع فيها. وهذا ما فعلته إسرائيل مباشرة عقب سقوط نظام الأسد، بغرض إضعاف سورية وصولاً إلى تفتيتها. ويمكن تجنّب هذه المخاطر كليّاً أو جزئيّاً عبر رؤية انتقال سياسي معلنة وواضحة تستنهض سريعاً قوة الدولة، تمنع الفراغ، وتسدّ الباب امام التدخلات الخارجية المدمّرة.