لماذا أخفق حراك تشرين العراقي؟
ليس غريبا أن يتذكّر العراقيون في مثل هذه الأيام من كل عام الحراك الشعبي الذي أطلقه شبابٌ من مختلف الأصول والرؤى، ولدوا وعاشوا في حقبة الحروب والحصارات التي اتسمت بغياب الأمل، وعانوا في ما بعد من تبعات الفساد والقمع الممنهج الذي صنعته "العملية السياسية" الطائفية التي جاء بها الأميركيون، ولم يكن أمامهم سوى أن ينزلوا إلى الشوارع باحثين عن طريق يوصلهم إلى حياة آمنة مطمئنة وعادلة تمنحهم مثل ما حصل عليه أقرانهم في بلاد الله الأخرى، ولم يحملوا من عدّة سوى شعار بسيط يوحي بالبراءة والعنفوان "نريد وطناً"، وقد سقط منهم من أجل هذا الحلم، في موجة احتجاجات شملت بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، ودامت أسابيع، أزيد من 800 شهيد برصاص "قنّاصة" المليشيات ورجال الأمن، كما أصيب أكثر من 17 ألفا بجروح وإعاقات بحسب إحصائية موثقة، وتعرّض آخرون للاختطاف أو الاغتيال في ما بعد.
وإذ تنكّب الحراك يومها عن الوصول إلى أهدافه لأسباب عدّة، فإن مراجعة صارمة لما حدث قد تُعين في تشخيص الأخطاء، وتحديد أسباب الإخفاق، وتجذير الأولويات، خصوصاً وقد أعطت السنوات الست التي مرّت أولئك الشباب تجربة أكبر، وخبرةً أكثر، وتفهّما لما يحيط بهم، وقدرة على تبنّي مواقف ورؤى أكثر وضوحاً، واستعداداً لنشاطات أكثر فاعلية، وهي حصيلة معتبرة يمكن أن تشكّل معالم نحو تغيير يضمن لهم الوطن الحلم الذي أرادوه.
أول ما يخطر في الذهن بهذا الصدد أن حراك تشرين تبنّى شعارات ذات سقفٍ عال، ولم يطرح الكيفية التي يمكن بواسطتها تحويل تلك الشعارات إلى واقع ماثل، فضلاً عن أن تلك الشعارات أثارت الرعب لدى المجموعات الحاكمة، من مليشيات وأحزاب، ودفعتها إلى تناسي الخلافات والشروخ القائمة بينها، وتوحيد أسلحتها بوجه شباب الحراك وأنصاره، كما نبّهت الشعارات نفسها حكومة "الجمهورية الإسلامية" المهيمنة على القرار العراقي إلى أنها مستهدفة بهذا الحراك، ولذلك وضعت ثقلها لإفشاله وإعاقته، وحتى معاقبة القائمين به بطريقة أو بأخرى. ومن بين تلك الشعارات الدعوة إلى إسقاط النظام، وإنهاء الهيمنة الإيرانية. وضمن هذا التوجّه أقدم المحتجون على حرق القنصلية الإيرانية في النجف ومقارّ مليشيات وأحزاب إسلامية نافذة، واعترف إبراهيم الجعفري، أحد أركان المجموعة الحاكمة في حينه، بأن الحكم أوشك على السقوط لولا تدخّل الصدريين، والإشارة تعني أن الصدريين دخلوا على الخط، وتظاهروا بالتماهي مع شعارات الحراك، وبالتالي، نجحوا في السيطرة عليه وإجهاضه، وهذا ما حدث. وفي تقارير متواترة، أكد ناشطون مشاركة مجموعاتٍ من الحرس الثوري الإيراني في ذلك.
لم ينطلق الحراك من أرضية تنظيمية معدّة سلفا، ولم يكن وراءه تنظيم سياسي نشيط
ومع أن الحراك أفلح في دفع حكومة عادل عبد المهدي التي حُمّلت مسؤولية قمع الاحتجاجات إلى الاستقالة، والمجيء بحكومة ترأسّها مصطفى الكاظمي التي وعدت بتلبية مطالب المحتجين والاقتصاص من القتلة، إلا أنها، في النهاية، اكتفت بمنح بعض الحقوق المالية لذوي الشهداء، ولم تجرؤ على محاسبة أحد أو توجيه الاتهام إلى جهة ما، مع أن الوقائع والحيثيات كانت معروفة.
بيت القصيد هنا ما كان على "التشرينيين" أن يعملوا عليه لكي يتفادوا ردات الفعل الشرّيرة التي قد يقدم عليها النظام في مواجهتهم، أن يدرسوا بعناية ما يريدون تحقيقه من خلال حراكهم، وأن يرسموا مخطّطاً ينظّم ترتيب الأولويات، وينتقل من سقفٍ إلى سقف أعلى، مع تهيئة الوسائل التي تضمن ذلك على أرض الواقع، وهذا لم يحدُث، ما سهّل الانقضاض على الحراك وتصفيته.
إلى ذلك، لم ينطلق الحراك من أرضية تنظيمية معدّة سلفا، ولم يكن وراءه تنظيم سياسي نشيط، وقيادة ذكية ومؤهلة توحّد الجهد، وتنسّق بين حركات الاحتجاج في المحافظات، وتحسن استخدام الأوراق القوية المتوفّرة في الساحة، بل كان مجرّد حركة عفوية صنعتها تداعيات الأوضاع المأساوية التي عانى منها العراقيون، ووجدت الطريق مفتوحاً أمامها للتعبير عن نفسها على نحوٍ غير محسوب، وقد انعكس هذا النقص في تشتّت الرؤى، وعدم حساب ردات الفعل المتوقّعة من الخصوم والأعداء، وكيفية مواجهتها، وكذلك ردات فعل الناس العاديين الذين يُفترض أنهم يشكّلون السياج الذي يؤمّن الدعم والمساندة، ولم تتمكّن، في آخر المطاف، من أن تصل إلى الهدف الذي أرادته، لكنها ستظل تشكل علامة صحّية على طريقٍ يبدو طويلا.
وخلاصة ما يمكن قوله عن حراك تشرين إنه كان أكبر من انتفاضة، وأقلّ من ثورة.