لليهود المغاربة أن يحتفوا .. ولكن

لليهود المغاربة أن يحتفوا .. ولكن

27 ديسمبر 2020

حاخام مغربي في حفل في عيد هانوكا اليهودي في الدار البيضاء (14/12/2020/فرانس برس)

+ الخط -

كان لإعلان تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وتل أبيب وقع خاص على الإسرائيليين المنحدرين من أصول مغربية. وصفه بعضهم بأنه "يوم عيد" و"أعجوبة عيد الأنوار"، واعتبره آخرون "معجزة" ربانية. انتشرت صور وفيديوهات تنقل مظاهر احتفالات شعبية وعفوية، تعبر عن ارتباط حميمي بوطن أمّ، بجذور ضاربة في التاريخ، تعود إلى عهد ما قبل الاستيطان الروماني. وفي بلدة في صحراء النقب، أقام إسرائيليون مراسم احتفالية رسمية، رفعوا خلالها علم المغرب في ساحة البلدة، وحملوا صورا للملك محمد السادس، وأقاموا له صلوات. هناك من قد ينزعج من احتفاء إسرائيليين بمغربيتهم في دولة الاحتلال، لكن للحدث أبعادا سياسية تجعل هذا الولاء صفعة في وجه الصهيونية.

منذ نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر، والحركة الصهيونية تحاول تشويه تاريخ تعايش المسلمين واليهود عبر التاريخ، وتُسقط على يهود الشرق العربي والإسلامي واقع الاضطهاد المزمن الذي عانى منه اليهود في أوروبا المسيحية، وتُصوّر وضع "أهل الذمّة" تحت حكم المسلمين أنه مشابه لواقع اليهود في غيتوهات الغرب. وتمادت في هذه السردية إلى أن أصبحت توازي بين التهجير القسري الذي تعرّض له مئات آلاف الفلسطينيين إبّان النكبة وهجرة يهود المشرق والمغرب إلى إسرائيل. وبناءً على هذه المعادلة العرجاء، حوّلت خطة السلام الأميركية (صفقة القرن)، والتي أشرف عليها صهر الرئيس الأميركي، جاريد كوشنر، يهود المشرق والمغرب إلى"لاجئين إسرائيليين"، على الرغم من سهر المنظمات الصهيونية على تهجيرهم من الدول العربية.

وتزعم هذه الصفقة أن "الصراع العربي الإسرائيلي خلق مشكلة لاجئين مشتركة للفلسطينيين واليهود"، وأن ثمّة "عددًا مشابهًا من اللاجئين اليهود طُردوا من الدول العربية بعد وقت قصير من إقامة دولة إسرائيل، وذاقوا معاناة هم أيضاً". وعليه، تُلزم الوثيقة الدول العربية بإدماج اللاجئين الفلسطينيين في بلدانهم، مثلما "استقرّ اللاجئون الإسرائيليون وانخرطوا في دولة إسرائيل". ووفقا لمنطق "الهجوم أفضل وسيلة للدفاع"، تطالب إسرائيل إيران وسبع دول عربية، بما فيها المغرب، بالمساهمة في دفع 250 مليار دولار، تعويضا عن جميع ممتلكات "اللاجئين" اليهود الذين "أجبروا" على مغادرة تلك البلاد عقب قيام دولة إسرائيل. 

طالما حاولت الصهيونية تشويه تاريخ تعايش المسلمين واليهود عبر التاريخ، مسقطة على يهود الشرق العربي والإسلامي واقع الاضطهاد المزمن الذي عانى منه اليهود في أوروبا المسيحية

لم تفكر الدولة الصهيونية بولاء اليهود المغاربة لوطن أجدادهم، وبعلاقتهم الوطيدة مع المؤسسة الملكية، فجاءها خير جوابٍ على لسان رئيس الاتحاد العالمي لليهود المغاربة، سام بنشرتي، في رسالة وجهها إلى "وزارة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية"، ونشر محتواها موقع هسبريس المغربي في مطلع السنة الماضية. وصفت الرسالة ادعاءات طرد اليهود من المغرب والاستيلاء على ممتلكاتهم بأنها "أكاذيب .. وادّعاءات لا أساس لها من الصحة". وطالبت بحذف المغرب من قائمة هذه البلدان، والكفّ عن محاولات استخلاص أموال منه بناءً على اتهامات باطلة. لم تترك الرسالة أي لبسٍ حول هذا الموضوع، وأوضحت أن "المغرب لم يطرد اليهود من بلادهم ولم يستولِ أبدا على ممتلكاتهم، بل إن حوالي 300 ألف يهودي غادروا البلاد عام 1960 وتركوا وراءهم آلاف الأماكن، مثل المعابد والمقابر وأرشيفا مهمّا، وتعمل السلطات المغربية إلى حد اليوم على حماية ذلك على حسابها".

كان هذا الردّ جد محرج لسلطات الاحتلال، إذ قلب الآية رأسا على عقب، وذكّر إسرائيل بأن اليهود المغاربة مدينون للسلطات المغربية بالحفاظ على ممتلكاتهم وكل ما يتعلق بتاريخهم في هذا البلد. وأوضح أن الملك محمد السادس قد أمر بصيانة مقابر اليهود في البلاد، وخصّص عشرات آلاف الدولارات لهذه المهمة، وأن في وسع أي يهودي التصرف في ممتلكاته في المغرب وبيعها. وقف اليهود المغاربة في وجه الصهيونية ومحاولاتها تزوير التاريخ من أجل تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين الجوهرية. ويضرب حديثهم عن التعايش بين اليهود والمسلمين عرض الحائط سردية "اضطهاد المسلمين لليهود" التي أسّست للمشروع الصهيوني الاستعماري. 

لا ينبغي على الإسرائيليين اليهود من أصل مغربي أن يتوقعوا أن نحتفي، نحن المغاربة المسلمين، علمانيين ومتدينين، بتطبيع العلاقات بين الرباط وتل أبيب

ولا يفوّت اليهود المغاربة فرصة للتذكير برفض الملك الراحل، محمد الخامس، أن يضع مصير المواطنين اليهود بين يدي حكومة فيشي النازية، بينما كانت المملكة المغربية ترزح تحت الاستعمار الفرنسي. وعندما أخبر الجنرال الفرنسي موريس نوغيس الملك بأنه تم إعداد مائتي ألف نجمة صفراء ليرتديها اليهود، قصد تمييزهم عن باقي السكان، أجابه محمد الخامس بأنه يتعين إعداد خمسين نجمة أخرى له ولكل فرد من العائلة الملكية. كان بإمكان ملك بلدٍ مسلوب السيادة على وطنه وقراراته أن يصمت، وينصاع لأوامر المحتل، ولكنه فضّل المقاومة، ولم يتم احتجاز اليهود والإلقاء بهم في مخيمات الاضطهاد والإبادة، بل فرضهم على المحتل كمغاربة، وأجلس أعيانهم قرب الضباط الفرنسيين وأفراد من لجنة الهدنة الألمانية، عند احتفائه بعيد العرش لسنة 1941، واستصدر ظهائر (مراسم ملكية) لحمايتهم، وقال قولته: "أنا لست ملكا للمسلمين فقط، وإنما ملك لكل المغاربة". 

موقف جد مشرّف يستحق أن يوثق في فيلم أو أفلام بمواصفات عالمية، دفاعا عن تاريخ تعايَش فيه المسلمون واليهود، ولا يمكن تشويهه وتزويره بجرّة أقلام صهيونية. فاليهود المغاربة، بمن فيهم رجال الدين، أول من دوّن هذه الصفحات المشرقة من تاريخهم في بلاد الإسلام. وخصص الحاخام الإسرائيلي المغربي، شلومو ميارا، أزيد من عشرين كتابا تؤرّخ لدور سلاطين المغرب في توفير الحماية لليهود، وأطلق الحاخام على آخر كتبه عنوان "ملوك الفضيلة والرحمة"، وسهر على جمع أزيد من 40 ألف وثيقة، تتضمن صورا، ورسائل، وشهادات باللغات، العبرية والفرنسية والعربية.

اعتمدت المملكة تدريس التاريخ اليهودي في المناهج، تزكيةً لاعتراف الدستور المغربي بأن المكون العبري أحد روافد الهوية الوطنية

لم يخلُ هذا التاريخ من تمييز أحيانا ووقائع اضطهاد تعرَّض لها اليهود المغاربة بين الفينة والأخرى، في أثناء بعض الأحداث السياسية، لكنها ظلت استثناءاتٍ لقاعدة التعايش والتسامح. وعلى الرغم من هجرة أغلب اليهود المغاربة في أعقاب قيام دولة إسرائيل، أو بالأحرى تهجيرهم الذي سهرت عليه الحركة الصهيونية، في كل من فرنسا وأميركا أحيانا، بتسهيلٍ من السلطات المغربية في ما بعد الاستقلال، ما زال المغرب حريصا على حماية هذا الجزء من الهوية الوطنية الذي يحكيه متحف اليهود في الدار البيضاء. وفي خطوة غير مسبوقة في الدول العربية والإسلامية، اعتمدت المملكة، خلال الموسم الدراسي الحالي، تدريس التاريخ اليهودي في المناهج الدراسية، تزكيةً لاعتراف الدستور المغربي بأن المكون العبري يشكل أحد روافد الهوية الوطنية. 

يحق للإسرائيليين، إذن، أن يسعدوا بمغربيتهم ويحتفوا بها، ولكن لا ينبغي عليهم أن يتوقعوا أن نحتفي، نحن المغاربة المسلمين، علمانيين ومتدينين، بتطبيع العلاقات بين الرباط وتل أبيب. السلام الذي يتحدثون عنه لا يتحقق على الورق، ولا تضمنه إمضاءات الاتفاقيات والتسويات بين الحكومات. ولو كان الأمر كذلك لسرح ومرح الإسرائيليون في عمّان والقاهرة والخرطوم. معظم المغاربة لن يحتفوا بالشعب الإسرائيلي، بمن فيهم اليهود المغاربة، والحصار يأسر ويخنق إخوانهم في غزة، وحكومة الاحتلال التي يشارك فيها عشرة وزراء من أصول مغربية، تنهب وتسلب الفلسطينيين المزيد من أراضيهم، وتقتل أطفالهم وتعتقلهم، وتشرّد كهولهم، وتحرمهم من حقوقهم، بدءاً بحق تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة وقابلة للحياة. لن نشتري التمور والبذور الإسرائيلية وجنود الاحتلال تقتلع أشجار النخيل من جنوب أريحا وأشجار الزيتون في الضفة الغربية، ولن نفتح بيوتنا للإسرائيليين وبيوت الفلسطينيين تهدم فوق رؤوسهم نهارا جهارا. 

إذا كان اليهود المغاربة يودّون التطبيع مع أطياف الشعب المغربي، عليهم أن يقفوا في وجه النظام الصّهيوني، ويناصروا الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال

باسم التعايش بين المسلمين واليهود، يحق لنا أن نسأل اليهود المغاربة في إسرائيل كيف طاوعهم ضميرهم أن يفعلوا بالمسلمين ما لم يفعله بهم المسلمون، ولماذا جعلوا العرب، مسلمين ومسيحيين، يدفعون ثمن جرائم الغرب. ربما هذه هي الأسئلة التي تبادرت إلى ذهن شقيق الملك محمد السادس، الأمير رشيد، حين التقى بالصحافي والسياسي الإسرائيلي المنحدر من أصول مغربية، دانيال بن سيمون، في مأدبة غداء في قصر الإليزيه الرئاسي بباريس، وقال له: "أتدري سيد بن سيمون أني أتساءل أين قِيَمنا المغربية، وماذا حلّ بها في إسرائيل؟". روى بن سيمون هذه الحادثة في فيلم وثائقي لقناة الجزيرة بعنوان "الصعود نحو الشتات"، واعترف بالحرج الذي شعر به آنذاك، وردّد بدوره: أين تراثنا في الانسجام والعيش المشترك والتعايش واحترام الآخر؟ أين ذلك كله؟

إن كان اليهود المغاربة يودّون التطبيع مع كل أطياف الشعب المغربي، عليهم أن يقفوا في وجه النظام الصّهيوني، ويناصروا الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال، مثلما فعل جون بول سارتر وهنري علاق وفرانسيس جونسون، وغيرهم من المثقفين الفرنسيين الذين قلبوا الرأي العام الفرنسي ضد حكومة شارل ديغول، وقاوموا حربها الاستعمارية في الجزائر. ومثلما ثار الجنود والطلاب والصحافيون الأميركيون ضد حرب فيتنام وفضحوا وحشيتها. عليهم أن يلتحقوا بركب المقاومة الذي يقوده اليوم سيون أسيدون، المُشرِف على تنسيق حركة "مقاطعة إسرائيل" BDS فرع المغرب، مواصلا نضال أبرهام السرفاتي وإدمون عمران المالح وغيرهم من المغاربة اليهود الذين رفضوا الظلم الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني على يد أبناء جلدتهم وطائفتهم.

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري