لقمان سليم وقواعد اللعبة السياسية في لبنان
في واحدة من لحظات انتصار كاتم الصوت، عثر الأمن اللبناني صباح يوم 4 فبراير/ شباط 2021 على الكاتب والناشط السياسي لقمان سليم (58 عاماً)، بعد ساعات من اختفائه، جثّةً مضرّجةً بالدّماء داخل سيارة في أطراف بلدة العدوسية (قضاء صيدا). تحوّل اغتيال سليم قضيةَ رأي عام، تجاوزت سليم نفسه إلى فضاء نقاشاتٍ أوسع، تتعلّق بظاهرتَي الاغتيال السياسي وتسييس القضاء اللبناني. ولطالما انتقد ذوو الضحايا، ومنظّمات دولية، التقاعسَ عن التزام سيادة القانون، وعن إجراء تحقيقات مستقلّة وشاملة في قضايا سياسية شائكة، ما يكرس ثقافة الإفلات من العقاب.
أشار تقرير لـ"هيومن رايتس ووتش"، في فبراير/ شباط 2022، إلى أوجه قصور وانتهاكات إجراءات معيارية في أربع تحقيقات بجرائم قتل ذات حساسية سياسية (لقمان سليم وجو بجاني ومنير بو رجيلي وأنطوان داغر)، يُزعم ارتكابها بيد مجموعات لها صلات سياسية أو ذات نفوذ سياسي، لم يُحدَّد فيها أيُّ مشتبه بهم أو دوافع، ما يثير تساؤلاتٍ عن الكفاءة المهنية، والحيادية، في استجابة أجهزة إنفاذ القانون، ويُعرّض العدالة والمساءلة للخطر. وقالت المنظمة، إن عائلات الضحايا اشتكت من انتهاكاتٍ للإجراءات المعيارية للتحقيق في الجريمة، ومن تلكؤ القضاء لأهداف سياسية في سير التحقيقات والمحاكمة، من ذلك أنّ القضاء لم يَستجوب الأشخاص الرئيسيّين الذين قد يكون لديهم معلومات مهمّة حول جرائم القتل أو الدوافع، وأن التحقيق ركّز في دوافع شخصية للجريمة، متجاهلاً مسبقاً السيناريوهات المحتملة الأخرى، بما فيها إمكانية ربط جرائم القتل بعمل الضحايا الحسّاس سياسياً. لم تنجز السلطات اللبنانية أيّ تقدُّم يُذكر في تحقيقها القضائي في مقتل لقمان سليم. وبعد أربع سنوات من "التحقيق"، أصدر القاضي بلال حلاوي قراراً ظنّياً (فبراير/ شباط 2025) عدّ مرتكبي الجريمة مجهولين.
لقمان سليم ناشر ومؤسّس "دار الجديد" (1990)، التي لطالما أثارت منشوراتها الجدل، وأسس وأدار مركزَ "أمم للتوثيق والأبحاث"، فأسس قاعدة بيانات للقتلى والمختفين خلال الحرب الأهلية اللبنانية. ألحّ على ثقافة الذاكرة أداةً لمواجهة ثقافة الإفلات من العقاب، فأخرج وزوجته، الألمانية مونيكا بورغمان، وثائقيَين يسائل في أحدهما مرتكبي مجزرة مخيّمَي صبرا وشاتيلا، وآخر يوثق الاعتقالات في سجن تدمر تحت حكم نظام الأسد. عارض الأحزاب الطائفية، بما فيها حزب الله بوصفه "دولةً داخل الدولة"، وفي ديسمبر/ كانون الأول 2019، تعرّض منزله في ضاحية بيروت الجنوبية للاعتداء، وكتب المعتدون على جدران منزله "المجد لكاتم الصوت". وقبل أسابيع من اغتياله، اتَّهم سليم، صراحةً، حزب الله والنظام السوري بالتورّط في انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، وهو ما يضع اغتياله في إطار سياسي حسّاس.
نهاية الأسبوع الماضي، أصدرت رئيسة محكمة التمييز الجزائية، القاضية رندة كفوري، حكماً بنقل الدعوى (في قضية لقمان سليم) من قاضي التحقيق الأول ببيروت بلال حلاوي، إلى آخر يُكلّف عبر المرجع القضائي المختصّ، وهو ما قد يعالج مؤقّتاً أوجه القصور السابقة، لكن من المُستبعَد أن يلامس جذور المشكلة المتمثّلة في تسييس القضاء اللبناني، إذ تتيح القوانين الحالية تعليق التحقيقات تلقائياً عند رفض القاضي أو طلب استبداله، ما يفتح الباب لتعطيل أطراف سياسية سير العدالة. تحقيق استقلالية فعلية للقضاء اللبناني يتطلّب إجراءات تشريعية وهيكلية تضمن تعيين القضاة بعيداً عن المُحاصصة والسيطرة الحزبية، وخصوصاً، تعديل المادّتَين "751" من قانون أصول المحاكمات المدنية و"52" من قانون أصول المحاكمات الجزائية، كما في اقتراح نوّاب لبنانيين في مارس/ آذار 2023 (عطَّلت المادّتَان أيضاً التحقيق في انفجار مرفأ بيروت وقضايا أخرى). ومنها أيضاً إعادة هيكلة الهيئة العليا للقضاء وفصلها عن وزارة العدل، وتحييد مجلس القضاء الأعلى من التدخّلات السياسية المباشرة، كما دعا تقرير "مسار نحو استقلال القضاء" ("هيومن رايتس ووتش" 2023).
الاغتيالات في لبنان كانت (وما تزال) من قوانين اللعبة السياسية، ولم يعد ممكناً الفصل بين تحقيق العدالة والتغيير السياسي، وأصبح قلب قواعد العملية السياسية شرطاً لكسر حلقة الإفلات من العقاب.