لقاحات كوفيد .. غياب التضامن الدولي

لقاحات كوفيد .. غياب التضامن الدولي

01 فبراير 2021
+ الخط -

بدأت الدول تسارع إلى شراء التلقيح من أجل حماية شعوبها. لا شيء يوحي أن البشرية التي أصابها الوباء من دون تمييز تخلت عن قواعد التمييز هذا، وهي تعيد إنتاج تقسيم العالم إلى دول فقيرة وأخرى غنية. كان الناس يردّدون دوما أن العالم لن يكون بعد كورونا كما كان قبله. المحدّد في هذا السباق، وتحديدا الجاري حاليا، من أجل شراء اللقاح كان ثلاثة عوامل: إنتاج اللقاح، القدرة المالية، شبكة العلاقات التي تتقاطع فيها المصالح والولاءات والرهانات.
مرة أخرى، تستطيع الدولة التي كان بعضهم ينذر باختفائها، استعادة "وطنيتها" وشرعيتها ومشروعيتها. ها هي تهب لنجدة مواطنيها وإغاثتهم، وتحرص على المحافظة على حياتهم. انتعشت نظريات البيو/ سلطة كثيرا، وهي تقف على هذا التحالف الوثيق بين السلطة والبيولوجيا، من أجل إحكام السيطرة على الأفراد والجماعات. ها هي الأجسام العليلة تلوذ بالدولة، حتى قبل الأطباء، فهي طوق النجاة الذي يوفر لهم خدماتٍ، ويسخّر لهم هؤلاء الأطباء إن لزم الأمر. لطّفت الدولة من وجهها حتى بدت وديعة رحيمة، مختلفة عن تلك القسمات التي عدّدها نيتشه، وهو يرسم قسماتها وملامحها: وحش بارد بشع الوجه. لقد بدت والناس يحاصرهم الوباء ملاكا للرحمة.

سارعت الدول، من دون إبداء أي تضامن مع أشقائها أو جيرانها، إلى شراء ما أمكن من لقاحات

في هذا الصراع المحموم مع المرض والتنافس الجهنمي على اللقاح، نجحت دول ورسبت أخرى، والسباق لم تعلن نتائجه بعد. تحرص الدول أن تقوم بـ"ضربة اتصالية" ماهرة، ولو بشراء مئات اللقاحات، إذ يكفي أن تعلن أن الدفعة الأولى من اللقاح وصلت، حتى ولو كانت حفنة ضئيلة. أما إذا ما أفلحت في نشر صور لمواطنيها وهم يتلقون اللقاح، ولو بعدد الأصابع، على مختلف الصفحات الاجتماعية للتواصل، فإنها قد ربحت الرهان، وبرزت للجميع دولة حنونة.
سارعت الدول، من دون إبداء أي تضامن مع أشقائها أو جيرانها، إلى شراء ما أمكن من لقاحات، وهي تعلم تماما أن العالم، مرة أخرى، يسقط في اقتصاد الندرة هذه المرة. ولم يستطع العالم، في هذا السباق، أن يتخلص من رائحة الأيديولوجيا، حتى وهو يبحث عن اللقاحات: المشدودون إلى قبلة الولايات المتحدة الأميركية سارعوا إلى شراء لقاح فايزر، وهم يعلمون أن الشريك الألماني، بيونتيك، لن يسمح بأي تلاعب، فالألمان الذين أنجبوا كانط ونيتشه وهايدغر لا يمكن لهم مجاملة أحد، حتى ولو وهبهم كنوز العالم كلها. أما الذين توجهوا إلى روسيا، يتشممون عليها رائحة الاتحاد السوفييتي القديم، فقد سعوا إلى شراء لقاح سبوتنيك، وهم يعلمون أن روسيا ما زالت تحنّ إلى أصدقاء سلفها: العالم الثالث وبعض النظم "التقدمية" القديمة. سارعت الجزائر مثلا ودول "اشتراكية" سابقا عديدة لتستعيد حنين الستينيات، وتقبل على لقاح صديقها التاريخي. في حين توجه آخرون إلى الصين، في نوع من البراغماتية، مع كثير من الثقة في بلد كان أول من اكتوى بنار الفيروس اللعين، على الرغم من مناطق الظل والغموض العديدة التي ما زالت تحيط بنشأة الفيروس وكيفية التعاطي الصيني معه.

الصندوق الذي خصصته منظمة الصحة العالمية، وغيرها من المنظمات الدولية الأخرى، إلى شراء اللقاحات لفائدة الدول الفقيرة لا يفي بالحاجة أصلا

ومع أهمية التجمعات الإقليمية، على غرار الاتحاد الأوروبي، الاتحاد المغاربي، مجلس التعاون الخليجي، فإن السباق نحو شراء التلقيح كان أحاديا. جرت الدول من دون أن تلتفت إلى غيرها من أشقاء أو جيران. حتى الاتحاد الأوروبي الذي كان يقدّم مثلا في التضامن والتصرف بشكل جماعي شذ عن هذه القاعدة، وتصرّفت دوله وفق مصالحها السيادية العليا.
نادت منظمة الصحة العالمية بضرورة إبداء مزيد من التضامن في مواجهة الوباء، وذلك ما حرصت عليه منظمة الأمم المتحدة. ولكن يبدو أن هذه النداءات لن تجد آذانا صاغية، خصوصا في ظل تفاقم أعداد الإصابات والوفيات، وذلك ما سيدفع الدول إلى إبداء ضراوة في سباقها ذلك، فالصندوق الذي خصصته منظمة الصحة العالمية، وغيرها من المنظمات الدولية الأخرى (التحالف العالمي للقاحات والتحالف العالمي لمكافحة الأوبئة) إلى شراء اللقاحات لفائدة الدول الفقيرة لا يفي بالحاجة أصلا، فضلا عن افتقاد اللقاحات التي سيزداد الطلب عليها. لذلك قد تفقد مبادرة كوفاكس العالمية (ترمي إلى العمل مع مصنعي اللقاحات لتمكين الدول من الحصول عليها) نجاعتها، وقد قارب عدد الضحايا مليونين. ويشتغل العداد للأسف، معلنا مزيدا من الوفيات، ففي الدقيقة الواحدة، يحصد الوباء عشرات الأشخاص عالميا. ومع ذلك يبدو أن الدول الغنية ستتمكن، في الأشهر القليلة المقبلة، من كبح انتشار الوباء. ولكنه، وهو ينحسر، لن يختفي، بل سيذهب، ليتفشى من الدول النامية التي ستنتظر طويلا حتى تصل إليها اللقاحات، هذا إذا ما وجدت إليه سبيلا.
تعملنا التجارب، قبل العلوم والمعارف، أن الأزمات تعيد إنتاج التضامنات بأشكال مختلفة. ولكن يبدو أن "كوفيد 19" شذ عن هذه القاعدة، إلا إذا استطاعت البشرية أن تتدارك هذه النقيصة مستقبلا.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.