لبنان يتراقص على أنغام إيقاع الفالس؟

لبنان يتراقص على أنغام إيقاع الفالس؟

30 يناير 2022
+ الخط -

الفالس قالب إيقاعي تحوّل فيما بعد إلى نوع من الرقص، بدأ في النمسا وألمانيا، ومنهما انتشر إلى أنحاء كثيرة من العالم، خصوصاً بعد أن نظم الموسيقار النمساوي، يوهان شتراوس الابن، مقطوعته الدانوب الأزرق عام 1866. فالفالس نوع من الرقص الأوروبي الذي اكتسب شهرة عالمية في الآونة الأخيرة، تكون الرقصة فيه محدودة الحركات داخل مربع لا تتخطّاه، حيث يدور الراقص داخل هذا المربع، من اليمين إلى اليسار.

يتراقص الجميع في لبنان على إيقاع الفالس، حيث يدورون داخل مربع الأزمات في حركة دائرية من دون المقدرة على التخطي نحو مربع آخر. رقص صاخب وموسيقى عالية وشعب ينهار تعباً، على وقع لامبالاة مسؤوليه بما وصلت إليه البلاد من مربع الانهيار، حيث الأزمات لم تزل تدور داخل المربع، من دون أن تستطيع الخروج منه، كي يتغيّر شيء ما في الأفق المسدود.

يتغير مربع راقصي الفالس عندما يعتمد الراقصون على خطوة تجعلهم يخرجون من المربع الأول إلى الثاني، في دلالةٍ واضحةٍ على حرفية رقصهم. أمّا الراقصون في لبنان، فلا يستطيعون فعل ذلك، أولاً، لأن مربعهم رسمه لهم مدرّبوهم الدوليون، حيث إنّ زجّ لبنان في صراعات المنطقة جعل الرقص يعيد نفسه وينتج الأزمات، تماماً كما هو حاصل مع عدائية حزب الله دول الخليج العربي، حيث بات البلد يعيش شبه عزلة دولية وعربية.

ثانياً، ما يجعل لبنان يتحرّك داخل مربع محدّد، هو ممارسة الكيدية السياسية بين الأفرقاء، الأمر الذي يضعه في حالةٍ من الجمود السياسي، فلا يستطيع إنتاج الحلول للأزمات التي يتخبّط بها. فعلى إيقاعَي الفالس، الداخلي والخارجي، هل سيكون الخروج من المربع نحو مربع تشكيل نظام جديد يرتكز على هدم أركان النظام القديم؟

رفض المشاركة في الحوار الذي دعا إليه رئيس الجمهورية ميشال عون دليل قاطع على عمق الأزمة، واللاحوار بين الأطراف المتصارعة

لم يكن وصول لبنان إلى أزمته من طريق "السقوط الحرّ"، بل سمحت سياساتٌ للمسؤول بنهب المال العام، وأغرقت البلاد بديون وقروض من خلال إقامة المؤتمرات للدول المانحة كي يسقط هذا البلد عاجزاً عن سداد دينه، حيث يترنّح لبنان اليوم على وقع استحقاقاتٍ دولية، منها الإصلاح الإداري الذي يطلبه صندوق النقد الدولي، كي يجري التعاون، ومسألة ترسيم الحدود البحرية مع الجانب الإسرائيلي، حيث المطلب الأميركي بات ملحاً لإنهاء هذه المسألة، في زيارة المفوّض الأميركي، آموس هوكشتاين، للبنان في الأيام المقبلة، وهناك أيضاً مطلب أميركي آخر، هو مسألة سحب سلاح حزب الله، ولا سيما الصواريخ الدقيقة، فقد أوضحت مصادر متابعة أن هناك تفاوضاً بين هذه المطالب ورفع العقوبات الأميركية عن المسؤولين، كذلك تسهل أميركا عملية استجرار الكهرباء من مصر من دون أن يشكل قانون قيصر المطبّق على سورية عقبة أمام هذا المشروع.

بين مكوكية الدبلوماسية الأميركية والتصعيد الإيراني عبر حزب الله، يرقص اللبناني الفالس في مربّع من غير المسموح تخطيه، ولا يسمح له الخروج عن الإيقاع الذي ضبط له. هذا ما يسبّب تدهوراً سياسياً يترافق مع التدحرج الاقتصادي والمالي، يهيئ، على ما يبدو، لفوضى اجتماعية ناتجة من تزايد في نسبة الفقر. وقد يكون هذا هو المخرج الوحيد المتاح للذهاب إلى تسويةٍ كبرى إقليمية وداخلية، يصحّ وصفها بالعقد الاجتماعي الجديد، أو النظام السياسي الجديد، أو بمعنى أوضح بالمؤتمر التأسيسي. وترى مصادر شديدة الاطلاع أن بعض القوى السياسية ترغب في أن يتّجه البلد إلى اتفاق سياسي جديد يكون المقدمة الوحيدة لبدء الحلول السياسية والاقتصادية لوضع لبنان على سكّة الإنقاذ. ولعلّ أولى هذه القوى حزب الله الذي يسعى لأن يكون المؤتمر التأسيسي نتيجة طبيعية لكل الضغوط التي تخنق الساحة اللبنانية.

يترنّح لبنان اليوم على وقع استحقاقاتٍ دولية، منها الإصلاح الإداري الذي يطلبه صندوق النقد الدولي، كي يجري التعاون، ومسألة ترسيم الحدود البحرية مع الجانب الإسرائيلي

لهذا سيبقى لبنان يرقص الفالس، لبلوغ الانهيار منتهاه، وتفلّت الواقع الأمني إلى حدوده القصوى، الأمر الذي سيؤدّي إلى عجز الحواضن الإقليمية عن إيجاد حلول سريعة وخفيفة واجتراح تسويات سياسية محدودة وإعادة الاستقرار، التي تعتبر أولية للبنان. هذا داخلياً، أما إقليمياً، فيجب الوصول إلى تفاهمات إقليمية بين الدول، تحديداً بين إيران والسعودية وسورية، ومن جهة ثانية بين إيران والولايات المتحدة التي بدأ مسارها يتّضح في مفاوضات فيينا.

في هذا السياق، أبدت السفيرة الفرنسية في لبنان، آن غريو، استغرابها حالة الإهمال عند المسؤول للترهل السياسي الحاصل، هذا ما أبلغته إلى الرئيس ميشال عون في اللقاء أخيراً معه. إذ ثمّة علامات استفهام مثيرة للقلق لدى باريس حيال حالة "الاستسلام" المريب إزاء الانهيار الاقتصادي المتواصل في البلاد، أكّدت أن البلاد تسير نحو انفجار اجتماعي "مفتعل"، سيؤدي حتماً إلى تأجيل الانتخابات النيابية ويهدّد انتخاب رئيس جديد للبلاد. وقالت صراحة إنّ ثمة قوى تدفع إلى الانهيار الشامل، مبدية قلقها من بطء سير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

لن يتوقف لبنان عن الرقص على إيقاع الفالس، وستبقى رقصاته في المربع ذاته، إلى أن تحين فرصة للانتقال إلى مربع جديد

صحيحٌ أنّ رقصة الفالس تحتاج إلى انسجام تام بين شريكين يتناغمان في حركاتهما، إلا أن من المؤكد أن هذا التناغم لا ينطبق على أفرقاء لبنان. فرفض المشاركة في الحوار الذي دعا إليه رئيس الجمهورية ميشال عون دليل قاطع على عمق الأزمة، واللاحوار بين الأطراف المتصارعة. لهذا، سيبقى الرقص داخل المربع، في وقتٍ تتعمّق فيه الفجوة أكثر وأكثر، من دون المبادرة إلى إيجاد حلول، وهذا أصلاً ما لم يحصل.

وما عملية تعطيل مجلس الوزراء إلا لبتّ أمر الموازنة، وعدم فتح دورة استثنائية للمجلس النيابي وفشل رئيس البلاد بإطلاق المبادرات عبر فشل طاولة الحوار الوطني التي دعا إليها، يدفع الوضع نحو مزيد من التأزم. هذا التأزم الذي يدور في حلقة مفرغة هو المطلوب اليوم، ولا سيما أن لا نضج بعد لأي تسويات إقليمية ولا دولية، في ظلّ شدّ الحبال بين روسيا والولايات المتحدة، وفي ظلّ التصعيد المتعمد من حزب الله، لضرب اتفاقية الطائف، ولأخذ لبنان إلى صيغة عيش جديدة، يكون هو الأقوى فيها.

أخيراً، لن يتوقف لبنان عن الرقص على إيقاع الفالس، وستبقى رقصاته في المربع ذاته، إلى أن تحين فرصة للانتقال إلى مربع جديد، عندها سيكون هناك لبنان جديد، ومن يدري، قد يكون هناك لبنانيون جدد على وقع حركة الهجرة المتصاعدة بين اللبنانيين إلى الخارج.