لبنان وخطر تجدّد الحرب
جندي إسرائيلي يصوب سلاحه على أهالي من مارون الراس يحاولون العودة (27/1/2025 فرانس برس)
يجد اللبنانيون أنفسهم حالياً في مواجهة ثلاثة مخاطر تهدّد توازنات بلدهم السياسية الداخلية واستقراره الهش. بدءاً من خطر انفجار الوضع الداخلي، وانزلاقه إلى دوامة جديدة من العنف والاقتتال الأهلي؛ مروراً بالخطر الكامن في استمرار احتلال الجيش الإسرائيلي عدّة قرى وبلدات في جنوب لبنان؛ وصولاً إلى خطر الدخول في مواجهة مع الإدارة الأميركية الجديدة للرئيس ترامب التي بدأت ترسم سياساتها إزاء هذا البلد، وشكلت زيارة مورغان أورتيغاوس التي كلفتها إدارة ترامب ملف لبنان أول الغيث.
على المستوى الداخلي، تراجعت موجة التفاؤل والزخم التي أثارها انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون وتكليف القاضي نواف سلام تشكيل الحكومة الجديدة أمام عقبات ظاهرها التنافس والتسابق بين الطوائف والأحزاب على الحصص الوزارية، بينما سببها الفعلي دفاع حزب الله عن مكانته السياسية في هذا البلد في مواجهة النتائج الكارثية التي أسفرت عنها الحرب أخيراً بينه وبين إسرائيل، يضاف إليها التغيرات الجيوسياسية التي تشهدها دول المنطقة، وضعف محور المقاومة الذي تتزّعمه إيران، والذي يشكل حزب الله جزءاً أساسياً فيه وسقوط نظام بشّار الأسد.
ويمكن القول إن تشكيل الحكومة اللبنانية الذي تأخر، وانتهى أمس بإعلانها، كان من الصعوبة بمكان في ترجمة موازين القوى الجديد في لبنان، والصراع الذي يخوضه حزب الله دفاعاً عن مكانته السياسية القديمة في هذا البلد ورفضه أي محاولة للمسّ بما يعتبرها مكتسبات أساسية لا يريد خسارتها بأي شكل ومستعدٌّ للدفاع عنها حتى النهاية.
مرحلة جديدة في التعاطي الأميركي مع لبنان الذي يعتمد جيشه، إلى حد كبير، على المساعدات الأميركية
الضربات الإسرائيلية الموجعة التي لحقت بالحزب وخساراته الكبيرة على صعيد زعامته وقادته جعلته شديد الحساسية لأي تحرّك داخلي يمكن أن يعتبره انتقاصاً من قوته. وفي الوقت عينه، يبدو واضحاً أن الحزب لم يستخلص دروس الحرب، ولم يعد تموضعه على الساحة السياسية الداخلية في ضوء ما أسفرت عنه الحرب التي خاضها أخيراً، ودفع كل لبنان ثمنها، فحزب الله الذي وعد اللبنانيين بأنه سيكون "الدرع" الذي سيحميهم من إسرائيل يرى اليوم الجيش الإسرائيلي يدمر ويخرب ويقتل ويقصف مع وقف إطلاق النار من دون أن يستطيع الرد عليه.
وحزب الله المأزوم داخلياً والمحاصر إسرائيلياً يشعر أيضاً بأنه يتعرّض لهجوم أميركي - إقليمي يهدف إلى تحجيمه والقضاء على نفوذه، الأمر الذي يضعه في موقف حرج، ويفتح الباب أمام كل الاحتمالات. والواضح أن حزب الله لم يبدأ بمراجعة داخلية عميقة وواسعة لاستخلاص دروس الحرب وكيفية التعامل مع المرحلة الحالية، كما يبدو أنه لم يبلور موقفه تماماً في مواجهة مع الحكم الجديد في لبنان ممثلاً برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف. تارة ينفتح عليهما، وتارة أخرى يتهمهما بأنهما أداة خارجية لتنفيذ الانقلاب عليه. وبدلاً من أن يلعب دور الميسّر والمتعاون مع الدولة اللبنانية التي تستطيع وحدها إعادة بناء الجنوب المدمّر وسائر المناطق التي دمرتها الحرب أخيراً، يبدو أنه قرّر أخيراً الدخول في مواجهةٍ جبهويةٍ معها، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على الاستقرار الداخلي اللبناني.
الخطر الثاني المُحدق بلبنان إسرائيلي، فإسرائيل التي لم تنجح في مواجهاتها مع حزب الله في تفكيك القدرات العسكرية للحزب تريد أن تستكمل ذلك من خلال استغلال وقف إطلاق النار وتطبيق قرار مجلس الأمن 1701 لتحقيق هذا الهدف. وتتصاعد عمليات الجيش الإسرائيلي يوماً بعد يوم في لبنان بذريعة تدمير منشآت وقواعد للحزب، وتحضر الأجواء إلى أنها في 18 فبراير/ شباط الحالي موعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من كل لبنان، ربما ستحتفظ بنقاط وجود عسكري في داخل الأراضي اللبنانية، ما يعني استمرار الاحتلال الإسرائيلي، واستمرار التعدّيات ومن ثم استمرار خطر الانزلاق إلى تدهور عسكري جديد بين حزب الله والجيش الإسرائيلي.
لم يُعد حزب الله تموضعه على الساحة السياسية الداخلية في ضوء ما أسفرت عنه الحرب
الخطر الثالث سياسة الإدارة الأميركية الجديدة حيال لبنان. من سمع تصريحات مورغان أورتيغاس لدى خروجها من الاجتماع مع رئيس الجمهورية اكتشف لغة جديدة قاطعة وصارمة وشديدة العداء لحزب الله. والتوصيفات التي استخدمتها، مثل "هزيمة" الحزب وضرورة وقف سياسة ترويعه للبنانيين، غير مألوفة في لبنان من دبلوماسيين أميركيين. وينذر ذلك كله بأننا أمام مرحلة جديدة في التعاطي الأميركي مع لبنان الذي يعتمد جيشه، إلى حد كبير، على المساعدات الأميركية، وهو في حاجة ماسّة إليها اليوم لتطبيق قرار مجلس الأمن 1701 بالانتشار جنوب نهر الليطاني وعلى طول الحدود.
يجري هذا كله في خضم العاصفة الهائلة التي أثارتها تصريحات ترامب بشأن تهجير سكان غزّة ونقلهم إلى الأردن ومصر ودول أخرى، والانطباع بأن الرئيس ترامب جاء لينفذ سياسات اليمين الإسرائيلي المتطرّف بضم الضفة الغربية، والقضاء على أعداء إسرائيل "حماس" وحزب الله وإيران.
يضع ذلك كله لبنان أمام تحدّيات كبيرة، من تحدّي النجاح في تشكيل الحكومة، إلى تحدّي تحقق الانسحاب الإسرائيلي في 18 فبراير/ شباط الجاري، إلى تحدّي عدم الدخول في مواجهة مع الإدارة الأميركية الجديدة. لبنان في حاجة ماسّة إلى حكومة تدعم العهد الجديد، وقادرة على القيام بالإصلاحات المطلوبة كي تنال ثقة اللبنانيين والدول العربية والعالم للبدء بعملية إعادة إعمار ما دمرته الحرب. وذلك كله اليوم رهن بقدرة حزب الله والمحور المؤيد له على استيعاب هذه التغيرات، واتخاذ القرارات الصحيحة التي تحمي لبنان وتصون وحدته الداخلية.