لبنان والمحاصصة .. عودٌ على بدء؟

لبنان والمحاصصة .. عودٌ على بدء؟

26 اغسطس 2021
+ الخط -

بعد انقضاء اثني عشر لقاءً بين الرئيس اللبناني ميشال عون، والرئيس المكلّف بتأليف الحكومة نجيب ميقاتي، وبعدما استطاع الاثنان تجاوز عقبة التوزيع الطائفي للحقائب الوزارية التي أخذت من الوقت ما يُقارب شهراً شهد كثيراً من القيل والقال، دخل موضوع إسقاط الأسماء المقترحة على الوزارات بازار الأجندات والحسابات السياسية من جديد في إعادة المقاربات نفسها، وكذلك منهجية الحكم والآلية لتوزيع السلطات بين أطراف السلطة في لبنان، والتي كانت سائدة قبل ثورة تشرين (أكتوبر 2019)، وقبل انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020، والقائمة على منطق اللامسوؤلية السياسية، والجشع السياسي، الأمر الذي يُثير انتقاداتٍ وتساؤلاتٍ كثيرة بشأن جدوى هذه الحكومة (في حال تشكيلها)، والتي ستعكس، في جوهرها وشكلها، الولاءات السياسية للمنظومة الحاكمة، وكأنها حكومة محاصصة، ونسخة طبق الأصل، عن حكومة سعد الحريري الثانية في عهد الرئيس الحالي ميشال عون، أو حكومة محسّنة سياسياً عن حكومة حسّان دياب المستقيلة.

التقديرات بشأن المرحلة المقبلة غير متفائلة في ظل سلطة سياسية متشبثة وعنيدة، وشارع منتفض لن يسكت حتى يحقق مطالبه

تحمل هذه التساؤلات المثارة أوجهاً كثيرة مؤكّدة، أثبتتها الوقائع، فصيغة إدارة الحكم في لبنان، طوال العقود الثلاثة الماضية، والتي قامت على تنظيم توزيع السلطات على أساس طائفي تتحكّم فيها المصالح الفردية لأشخاص وأحزاب وكتل، أظهرت حدودها، إلى درجة أنه لا يمكن توقّع أي جدوى من استمرار الصيغة نفسها والأسلوب نفسه، فلا يمكن لطبقة سياسية متّهمة بالفشل والفساد والارتهان للخارج أن تسهم بتركيب سلطة كفوءة وشفافة قادرة على المحاسبة ومواكبة طموحات اللبنانيين. لذا سيكون من المخاطرة الرهان على استفاقة الحس الوطني وتغليب المصلحة الجماعية لدى هذه الطبقة التي فقدت كامل هيبتها، وفقدت ثقة الشارع بها. لذا يمكن القول هنا إنّ تأليف الحكومة بهذا الشكل لن يكون بداية الحل، كما يعتقد المهرولون والمطبّلون لتأليف الحكومة، بل سيكون التأليف بهذه الطريقة مقدّمة لأزمات أخرى تنتظر الحكومة، فمن شأن حكومة المحاصصات والتوازنات أن تعقّد الأزمة الداخلية أكثر، إذ ستستفز الشريحة الواسعة من اللبنانيين، وتكون سبباً لإشعال الشارع من جديد، بعد أن عاودت الأحزاب تقاسم الوزارات في الحكومة وتسمية وزرائها على نحوٍ يعاكس مطالب الشارع بتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين، فضلاً عن أنّها ستقفل أبواب الخارج أمام لبنان، وستحجب عنه المساعدات العربية والدولية المنتظرة. وأكثر من ذلك ستعزّز القناعة لدى هذه الشريحة الواسعة بأنّها حكومة حزب الله المدارة من إيران لاستخدامها في لعبة التجاذبات الإقليمية.

وبالتالي، أي تسوية انتقالية بحكومة جديدة (حكومة الأمر الواقع) تقوم على المحاصصة والتوازنات الحزبية والبرلمانية تضمن للفريق الحاكم استمرار نفوذه وسطوته، وتشكّل له مخرجاً من أزمته وانسداد أفقه، يجب أن تُرفض في مهدها، فأي تسويةٍ لا تقوم على حكومة تكنوقراط تضم اختصاصيين غير حزبيين، لا ثلث ضامن أو معطل فيها لأي طرف، ينحصر دورها في البدء بالإصلاحات والتفاوض مع صندوق النقد الدولي وإعادة هيكلة الاقتصاد والقطاع المصرفي اللبناني ومحاكمة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة، ستبقى حكومةً عبثية، وستقود إلى أزمات أخرى أكبر في المستقبل.

من شأن حكومة المحاصصات والتوازنات أن تعقّد الأزمة الداخلية أكثر

التقديرات بشأن المرحلة المقبلة غير متفائلة في ظل سلطة سياسية متشبثة وعنيدة، وشارع منتفض لن يسكت حتى يحقق مطالبه، ولن يكون مفاجئاً أن تسقط الحكومة قبل أن تبدأ عملها الفعلي، فما انطوت عليه عملية تأليف الحكومة من معايير من شأنها دفع الشارع إلى التعبير عن غضبه ورفضه الحكومة، بعد أن استكان في انتظار الإعلان عن الحكومة وأسماء أعضائها. فمن يعتقد أنّ الشارع اللبناني المنتفض سيستكين لحكومة طائفية بتمثيل غير مباشر مخطئ، ومخطئ أيضاً من يعتقد أنّ الشارع المنتفض سيقبل بتغيير شكل الحكومة فقط، من دون تغيير مضمونها، فالشعب انتفض لإحداث تغيير جذري في قواعد النظام السياسي اللبناني بأكمله، والقائم على محاصصة طائفية وحزبية، توزّع فيها المناصب الأساسية في الدولة، بنسبٍ محدّدة بين الطوائف المختلفة التي تتبع بدورها لمجموعة زعماء أوصلتهم التركيبة الطائفية والمذهبية إلى ما هم عليه في وقتنا الراهن، فالأوضاع في لبنان لم تعد تحتمل المزيد من هذه الممارسات، فلبنان لا يمكنه مواجهة الظروف والمخاطر الراهنة على مختلف الأصعدة والمستويات باستمرار ممارسات المحاصصات التي تبقي لبنان في وضع هش، ومشلول سياسياً واقتصادياً وأمنياً. وتبقي المؤسسات في لبنان رهينة للولاءات والمحاصصات الطائفية والحزبية. لذا لا بدّ من إعادة تنظيم الدولة اللبنانية على أسس جديدة تُلغي من قاموسها السياسي والاجتماعي المحاصصات الطائفية في تقاسم السلطة والنفوذ، من خلال تطبيق البند الدستوري الذي ينصّ على تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، ومنها يتم الانطلاق نحو وضع برنامج مرحلي لتجاوز حالة الطائفية، وإعادة الديمقراطية إلى مسارها الصحيح، بما يعيد الاعتبار والاحترام للدولة ولسلطتها، بعيداً عن أحلام السيطرة والاستئثار والانتقام والتحكّم بآلة الدولة ومواقعها، وإلا على اللبنانيين أن يعيدوا رسم تحرّكاتهم في صورة ثورة جديدة متجدّدة ضد السلطة الحاكمة والمتحكمة لإعادة تنظيم الدولة اللبنانية على أسس جديدة، بعيداً عن الطائفية والمذهبية والعنصرية، وبعيداً عن الطبقة السياسية الفاسدة وتبعيتها الإقليمية.