لبنان... ماذا بعد؟
دخل لبنان في مرحلة وقف ٳطلاق النار في المهلة التي حدّدت لشهرين، بعد التصعيد الٳسرائيلي الهستيري والفوضى في الأيام الأخيرة المجنونة في استهداف بيروت الٳدارية والضاحية الجنوبية، بالٳضافة ٳلى توسّع في العمليات البرّية في الجنوب والبقاع.
وقف الٳعلان الأميركي- الفرنسي المشترك حائلاً بين استمرار النيران بين ٳسرائيل وحزب الله، ويشكل مدخلاً لاتفاق يرسي وقفاً لٳطلاق النار، حيث بدأ الناس يعودون ٳلى منازلهم وبلداتهم في مشهد تقليدي مباشربعد الٳعلان عن توقف العمليات الحربية. حدث هذا أكثر من مرّة في الأعوام 1978، 1982، 1986، 1996، 2000، 2006.
سيذهب اللبنانيون ٳلى لملمة جراحهم وسط عدم اليقين في اليوم التالي، وأسئلة كثيرة محرّمة وممنوعة حيناً عما جرى، وحول سياقات وطرق اعتماد قرارات أدّت إلى نتائج مدمّرة على الأرض، وضعت الدولة واللبنانيين على حافّة الهلاك في متاهة معادلات إقليمية خاطئة، صنعتها قوى خارجية أو تخيلتها.
الآن، لبنان أمام نافذة/ فرصة ألا يتكرر مشهد النزوح، وعلى الطبقة السياسية أن تتعامل مع مستجدّات الموقف الدولي، وأن تمارس وظيفتها التي غادرتها منذ زمن طويل. لا سيما أن الاتفاق يبدو جدّياً لجهة الجهود الأميركية والفرنسية التي بذلت، والترحيب الواسع على المستوى الدولي. في لبنان، هناك شبه إجماع على تنفيذ بنود القرار الدولي 1701، وما يتضمنه من إجراءات وترتيبات أمنية "إعادة صياغة بٳشراف لجنة دولية". وهو ينص صراحة على مسؤولية الأمن شمال الليطاني من الجيش اللبناني بالتعاون مع قوات الأمم المتحدة (يونيفيل)، ويسقط القراءة السابقة التي استند إليها لبنان، باعتبار أن مفاعيله تشمل "جنوب الليطاني" فقط، فيغطي القرار بمفاعيله الحقيقية كل الأراضي والحدود اللبنانية – السورية، ويفرض على سورية وٳيران حظراً على ٳدخال الأسلحة ومكوناتها، وعلى الجيش اللبناني تفكيك المنشآت غير المصرح عنها والبنى التحتية من دون تحديد منطقة جغرافية محددة (قرار مجلس الأمن 1559). كما يمنع القرار أي شكل من أشكال التنسيق مع الجيش اللبناني من خلال بند وحرفيته "تعتزم إسرائيل والولايات المتحدة تبادل معلومات استخباراتية حساسة تتعلق بانتهاكات، بما في ذلك أي اختراق من حزب الله داخل الجيش اللبناني"، وتحميل الحكومة اللبنانية والمؤسّسات الشرعية مسؤولية أي خرق للاتفاق يصب في مصلحة حزب الله . وضمنت الولايات المتحدة وفرنسا لٳسرائيل حق التحرك على الأراضي اللبنانية وفي أجواء الجنوب وخارجه لأغراض استخباراتية.
خشية من أن يستمر الحزب في معادلة "الجيش والشعب والمقاومة"، ما يخرق النموذج التواصلي الجديد مع العالم
ٳذا، سيكون الاتفاق مبدئياً في بيئة متغايرة، مختلفاً بشكل ملحوظ عن الذي جرى توقيعه العام 2006، لا سيّما في طريقة عودة المدنيين على الحدود. ويتعين أن يكون لبنان في ظروف وبيئة تضعه في مرحلة سياسية جديدة وأفق جديد في العلاقات الدولية، ووفق ما عبرت عنه سردية الرئيس الأميركي جو بايدن اللافتة عن "بلاد تمثل أعرق ثقافات العالم"، في الٳشارة ٳلى مشروع بيروت، الذي لا يقوم على القوة العسكرية أو الأمنية أو الديمغرافية، بل على القوة الاقتصادية والحضارية، وعلى ثقافة الحرية والانفتاح والحداثة ونوعية الحياة المدنية. بدت هذه الرؤية قاصرة في مراحل عديدة في التعبير عن رغبة إجراء تغييرات جذرية في المنطقة، غير السعي ٳلى ضبط القوى المختلفة واحتوائها ضمن المسارات التي تخدم مصالح ٳسرائيل الاستراتيجية.
والمشروع الٳسرائيلي قائم في الترسيم البري، من دون ٳغفال مشروع الحل السلمي، واختبار معاهدة سلام مع لبنان وسورية التي حيّدت نفسها عن الصراع، وعن مسار حرب غزّة ولبنان المتلازمتين، وفي سعي دولة الاحتلال الواضح إلى عدم السماح لبقاء أي قوة مقاومة على "حدودها" باعتبارها أحد المؤشّرات على أن الصراع لم يظهر سوى القليل من علامات التراجع.
أما وقد انتهت الحرب في لبنان مؤقتاً، وتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته كاملة لهذه الناحية، أصبحت الكرة في ملعب لبنان، حكومة ومؤسسات وبرلماناً وسياسيين، ويمكن أن تستكمل العملية السلمية "فوراً" (رئيس مجلس النواب نبيه برّي)، بانتخاب رئيس للجمهورية من خارج الشروط السابقة، وتشكيل حكومة تسهر على الحفاظ على الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، وحيث يعرب المجتمعان، الدولي والعربي، عن الرغبة في مساعدة لبنان، في وقتٍ يطرُق فيه الٳيرانيون الأبواب الأوروبية للعبور ٳلى الضفة الأخرى من الأطلسي.
هذه فرصة للبنان لتجنب الأسوأ، ولأن يوافق حزب الله على التخفيف من أهدافه في ظل تغيّر في موازين القوى
قد تكون الفرصة التاريخية الأخيرة التي تتاح للبنانيين لعدم تكرار مآسي الحروب، ومن غير الجائز الالتفاف مجدّداً على مفاعيل القرارات الدولية. وهناك خشية من أن يستمر الحزب في معادلة "الجيش والشعب والمقاومة"، ما يخرق النموذج التواصلي الجديد مع العالم، من دون أن يصبح الحزب في زمن القوة المهيمنة مجدّدا، ولا هو في حالة انكسار داخلي يغيّر كثيراً في التوازنات الداخلية.
خطّطت ٳسرائيل للحرب بعناية فائقة، وهي تضغط لإيجاد حالة ضغط اقتصادي واجتماعي وأمني على كاهل الدولة اللبنانية. فيعمّ اليأس وتسود الفوضى وينهار بنيان المجتمع وسط الفراغ في مراكز القرار، ويتعطّل عمل المؤسّسات ويجرى التشكيك بقدرات الجيش اللبناني والقوى الأمنية.
يحتاج تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 ٳدارة الأزمة في لبنان، ورعاية ٳقليمية ودولية، ولا يزال أمام المجتمع الدولي الكثير من العمل للقيام به، وللتحقّق من أوهام نتنياهو بتحقيق نصر حاسم لن يأتي، وهو يمر في وقت عصيب مع سلسلة من الفضائح السياسية باستئناف محاكمته بتهمة الفساد، وٳصدار مذكرة اعتقال دولية بحقه، وتحت ضغط معارضة حزبين متشدّدين من ائتلافه الحاكم. ذلك كله لا بد من أن يؤدّي ٳلى زيادة الحاجة الملحّة لتخفيف أهداف الحرب. وقد أصبح الجيش الٳسرائيلي منهكا وفي حالة ٳرهاق وبخسائر غير مسبوقة، والمجتمع في حالة مزرية، بسبب التكاليف الاجتماعية والاقتصادية والبشرية الجديدة للحرب .هذه فرصة للبنان لتجنب الأسوأ، ولأن يوافق حزب الله على التخفيف من أهدافه في ظل تغيّر في موازين القوى (القناة الٳيرانية المفتوحة مع الغرب). والبديل استمرار الحرب، وٳذا خرق القرار، فقد تلجأ ٳسرائيل ٳلى مزيد من العنف والتدميرتنفيذاً لبند "حقّ الدفاع عن النفس قانوني لكلا الطرفين".
لم ينته الأمر في لبنان بعد بالقدرة على تحييد التهديدات التي تواجه بلداً مفلساً ومشلولاً سياسياً ومهدّداً بعودة الحرب الأهلية
يجب أن ينتهي الجانب اللبناني في تدبير شؤونه في المهلة التي تسبق رئاسة دونالد ترامب، حيث تستمر بعد ذلك عملية ٳعادة خلط الأوراق لصالح رئيس الوزراء الٳسرائيلي. وقد قادت ٳدارة بايدن جهوداً كبيرة في التفاوض لتحقيق وقف لإطلاق النار في غزّة ولبنان، ولكنها لم تمنع ٳسرائيل من استمرار الهجمات القاتلة والعنيفة، وهي علامة فظيعة على عدم المساءلة على الانتهاكات المستقبلية. قد يكون القانون الدولي محبطاً وعمله غير منظم، لكن عالماً بلا قانون سيكون مغلقأً وخطيراً على حياة اللبنانيين التي تعرّضت كلها للخطر.
يسير المسار في الاتجاه الصحيح في لبنان، لكن الأمر لم ينته بعد بالقدرة على تحييد التهديدات التي تواجه بلداً مفلساً ومشلولاً سياسياً ومهدّداً بعودة الحرب الأهلية في بيئة داخلية غير مستقرّة محبطة وغاضبة، وتصعب تهدئتها حتى مع توقف الحرب. لا يمكن الحصول على كل "التضاريس" في حالة إجراء المفاوضات. والدولة العبرية تمارس دبلوماسية جديدة لتعزيز الهيمنة على الشرق الأوسط بقوة خالصة متطرّفة، تجعل من جميع جيرانها في حالة دفاعية.