لبنان بعد الحرب
اليوم أو غداً أو بعد غد ستتوقف الحرب الإسرائيلية على لبنان. لن تكون نهايتها شبيهة بعدوان صيف 2006، ولن تُفرز حروباً داخلية لبنانية في الوقت نفسه. سيكون اليوم اللبناني التالي، بعد أي اتفاق لوقف النار، مغايراً لأيامنا السابقة. كان الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم واضحاً في خطابه، الأربعاء الماضي، لجهة انضواء الحزب تحت سقف اتفاق الطائف (نسبة لاسم المدينة السعودية)، الموقّع في عام 1989 لوقف الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). وفي حال ثبُت انخراط الحزب فعلياً في الاتفاق، فإنه يكون آخر الصاعدين إلى هذا القطار، بعدما كان الرئيس السابق ميشال عون قد رفضه لحظة التوقيع، قبل السقوط العسكري أمام الجيش السوري في أكتوبر/ تشرين الأول 1990، واللجوء إلى فرنسا 15 عاماً، ثم العودة إلى لبنان في 2005، والتموضع تحت سقف اتفاق الطائف ذاته، وانتخابه رئيساً بين عامي 2016 و2022 بموجب شروط الاتفاق نفسه.
اليوم يعمل قاسم على رسم مسار صعب لحزب الله نحو اتفاق الطائف في زمن قصير نسبياً، رغم أن الحزب نفسه كان معارضاً للاتفاق في 1989، لكن لغير حسابات عون في ذلك الحين. وبغض النظر عن مدى قدرة قاسم على دفع حزب الله باتجاه العمل تحت سقف الدولة اللبنانية أكثر، إلا أن إبراز مثل هذه النيات في الأيام الأخيرة كان لافتاً، على الرغم من أن الحزب عمل طيلة العقود الماضية تحت سقف الطائف برلمانياً، ثم حكومياً، غير أن وجوده استثناءً عن باقي الفصائل العسكرية التي ألقت سلاحها بعد انتهاء الحرب اللبنانية، وانخراطه في حروب الإقليم من سورية إلى العراق واليمن، عدا عن اعتباره متورّطاً في قضايا خليجية وأوروبية وأميركية جنوبية عدة، عُدّ خروجاً عن جوهر اتفاق الطائف.
قد يكون ما ذكره الأمين العام لحزب الله نوعياً في المسار السياسي الداخلي للحزب، بما يسمح بتطبيق شرط أقرب إلى عرف ناجم عن اتفاق الطائف، وهو مساواة جميع الطوائف عملياً، ولحسابات سياسية معقّدة، أمام الاتفاق والدستور عموماً. وإذا كان التلاقي الإيراني ـ السعودي مؤثراً بدرجة كبيرة على موقف حزب الله، فذلك يعني أيضاً اقتناعاً لدى طهران بأن مطالبة الحزب بتأدية دور أكبر من قدراته أدّت إلى تدمير مساحات شاسعة من لبنان، وتهجير أكثر من 1.3 مليون لبناني. ويعني أيضاً أن أي دفع باتجاه مزيد من التفرّد بالقرار اللبناني سيُفضي إلى سقوط الهيكل على رؤوس الجميع. التجارب المسيحية والدرزية والسنيّة نماذج عن محاولات التمسك بفائض القوة والسعي إلى ممارسة قدر من السلطة الزائدة، في بلد اعتاد أن يكون توازنه السياسي منبثقاً من توازن طوائفه.
في المقابل، يُفترض أن يدشّن خطاب قاسم الجديد نقاشاً مختلفاً بين القوى السياسية اللبنانية، على أمل تخلّيها عن كل أنواع التقية الدينية والسياسية، لأن التقية عادة تؤدي إلى الاصطدام بجدار ما. ومن المرتقب أن تلاقي هذه القوى حزب الله في منتصف الطريق، في مسار زمني طويل نسبياً. بالتالي، السعي المتسارع لقاسم في دفع حزب الله نحو اتفاق الطائف، يلاقيه مسار بطيء من القوى المعارضة للحزب، بما يؤدي إلى عدم حصول كل طرف على كل ما يريد. الآن، ذلك كله نابع من حسابات الأيام الأخيرة في العدوان الإسرائيلي على لبنان، غير أن التغيرات الفجائية تبقى في الحسبان، بحسب سير المواجهات والحرب بشكل عام، وهو ما قد ينعكس على الداخل اللبناني أيضاً، وعلى موقف حزب الله بشكل خاص.
الأكيد وسط هذا كله أن اليوم التالي لبنانياً ليس يوماً يُدشّن حرباً أهلية، إذ إن ما حصل منذ 23 سبتمبر/ أيلول الماضي وحتى صباح اليوم السبت، أظهر أن اللبنانيين بارعون في التفوّه بالشتائم بالخلافات السياسية، لكن لاوعيهم المسكون بذكريات حرب أهلية بعيدة يبقى مهيمناً على سلوكهم.