لبنان: بثّ مباشر للانهيار

لبنان: بثّ مباشر للانهيار

07 مارس 2021
+ الخط -

مشاهد غير مسبوقة أخذت ترد من لبنان خلال الأسبوعين الماضيين، على شكل تسجيلات مصوّرة في أكثر من مكان، لمواطنين يتصارعون على المواد الغذائية المدعومة من الدولة، في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار مع وصول سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية إلى أكثر من عشرة آلاف في السوق السوداء، فيما لا يزال سعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة. مشاهد توحي بشكل الانهيار الآتي إلى البلد الذي بات في وضع السقوط الحر من دون قدرة لأحد على إيقافه أو إنقاذه، ولا سيما مع تعاظم حالة الانقسام السياسي، واغتراب الطبقة الحاكمة بأشكالها كافة عن هموم المواطنين. صور وتسجيلات مصورة كهذه لم يعشها لبنان في عزّ حربه الأهلية، والتي قد تكون شهدت أحياناً شحاً في بعض المواد الغذائية، إلا أن ذلك لم يكن انعكاساً لحالة فقر مدقع أصبح اللبنانيون في قلبه الآن، وهم ذاهبون نحو الأسوأ.

يمكن لهذه الصور التي تصلنا يومياً من مناطق مختلفة من لبنان أن ترسم سيناريو اللحظة التالية. فكثير من التسجيلات يعيد إلى الأذهان صور النهب التي كانت تشهدها المدن الأميركية أو الأوروبية في بعض حالات الفوضى، وهو ما يمكن أن يحدث قريباً أيضاً في لبنان مع وصول الحالة الاقتصادية لغالبية المواطنين إلى ما دون الصفر. فبعدما كان الحد الأدنى للأجور في لبنان 675 ألفاً، أي ما يوازي نحو 450 دولاراً على سعر صرف 1500 ليرة، صار الآن أقل من 70 دولاراً، وهو ما ينعكس على مختلف الرواتب التي يستلمها أصحابها بالعملة المحلية، والتي انخفضت قيمتها الشرائية أكثر من ستة أضعاف. وما يفاقم الوضع هو التداعيات التي خلفتها جائحة كورونا على الوضع الاقتصادي العالمي، ولبنان منه، ما ترك الكثير من اللبنانيين عاطلين من العمل، إضافة إلى إعلان بعض المؤسسات إفلاسها وعدم قدرتها على الاستمرار في ظل التردي القائم.

دول كثيرة قد تلجأ في مثل هذا الوضع إلى تطبيق النظام الاشتراكي، وبطاقات المعونة الشهرية للمواطنين، وهو ما يخفف الضغط على العملة المحلية، وهو عملياً ما زال يحدث في سورية ومصر رغم الوضع الكارثي هناك أيضاً. غير أن الدولة في لبنان بعيدة كل البعد عن أي من الخطط الاشتراكية، إضافة إلى عجزها عن تحقيق ذلك، فحتى نظام دعم السلع الذي من شأنه أن يخفف قليلاً عن كاهل المواطنين، بدأت تتنصل منه شيئاً فشيئاً، تلبية لطلبات صندوق النقد الدولي في حال أراد لبنان الحصول على قرض للحد من تدهوره الاقتصادي. ومثل هذا التنصل سيفاقم حال التضخم ويدفع بالكثير من المواطنين إلى تحت خط الفقر.

الأنكى أن الطبقة السياسية في لبنان مستمرة في حالة الصراع على ظهر السفينة الغارقة، ولا تزال أطراف فيها تستعرض عضلاتها العسكرية في مواجهة الأعداء، متعامية عن حالة الموت اليومية التي يعيشها المواطنون. فإذا كان من عدو الآن، فهو المسؤول عن إيصال الوضع الاقتصادي في البلاد إلى ما وصل إليه. وبدل الحديث عن الصواريخ ودقتها وقدرتها، فإن الأولى البحث عن مكابح أو مظلات لوقف السقوط الحر للبلاد إلى الهاوية. الأمر نفسه بالنسبة إلى الأطراف السياسية الأخرى التي تعيش حالة نكران لفشل تجربتها في الحكم، وهنا الحديث عن كل الأطراف التي توالت على حكم البلاد منذ مطلع التسعينيات، وتلقي باللوم على جهات أخرى في المسؤولية عن الانهيار. وبين هذا وذاك، تأتي الأطراف الاقتصادية، والتي يشكل السياسيون بمختلف مشاربهم مكوناً أساسياً فيها، وهي على ما يبدو مستفيدة من سعر الصرف الحالي لتحقيق ما تيسّر من مكاسب قبل القفز بمراكب النجاة.

هو بثّ مباشر للانهيار اللبناني نتابعه يومياً بصور وتسجيلات، ويبدو أن تطوراته في طريقها إلى مزيد من التعقيدات الدرامية، مع غياب أي حلول اقتصادية أو سياسية.

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".