لا نقطة على السطر

لا نقطة على السطر

17 اغسطس 2021

(ناصر السوادي)

+ الخط -

لا عزاء. ولا نقطة على السطر. ما يجري لنا لا يُسكَت عنه. ما يجري غير مسموح ولن يجعله حدوثُه أو واقعُ الأمر مقبولا. لا شعب في العالم يستحقّ مثل هذا، لكنّ الفظيع أن شعوبا أخرى تعيشه وتعيش أسوأ منه.
في لبنان، نشاهد وقائعَ موتٍ معلن. مدينة تُخنَق، تُحاصَر، تُركّع، تُنسَف، ولا تني تموت. على مرأى من العالم، على مرأى من الجميع. بلادٌ محاصرةٌ، مستنزفة، أهلها يلوبون داخلها كجرذان مسّها الذعر والجوع. وثمّة عيونٌ بلقاء تنظر من الثقوب وتراقب، تراهن، تحتسب. إنه الطاعون. بل أسوأ منه. طعم الخسارة، وجع الذلّ، مذاق الصَلْب اليوميّ. كم سيدوم هذا، وكم سنصمد؟ نحن وراء جدار اليأس، بعده بأميال، والأفق مسدودٌ والجدران تعلو، والعدم يترصّدنا. كم نهاية نحتاج بعدُ لننتهي؟ كم حربا وكم موتا لنضمحلّ؟ لِمَ تنعم الأشياءُ كلّها بنهاية، إلا نحن؟ ممّ نحن مصنوعون، من فولاذ، من صخر؟ ألا من حدّ للعنة الإله، لعقابه؟ حتى سدوم وعمورة التهمتهما النيران وانتهى ناسُهما أعمدة ملح.
مالحٌ مذاق الأيام، ومُرّ. أتابع ما يجري عن بعد، وأشعر أن الأيام القليلة التي تفصلني عن بيروت باتت أشبه بدهر. انسي ما رأيتِ وما تعرفين، يقولون لي، بعد رحيلكِ (الذي لم يعدُ ثلاثة أسابيع) اختلفت أمورٌ كثيرة. اختفت أمور كثيرة. لا مازوت، لا وقود، لا كهرباء ولا مولّدات، لا مستشفيات ولا أفران. بقص الصيدليات والغلاء المستفحل تعرفينهما، لكن ضاعفي النقص واضربي الأسعار بثلاثة. المدارس الرسمية لن تستقبل التلامذة الذين لم يعد أهلهم يستطيعون دفع أقساطهم في التعليم الخاص، بل المدارس كلّها لن تفتح، إذ إلى أين يذهب الأطفال في ظل كل تلك الانقطاعات.
اقرأوا ما يكتبه اللبنانيون عن أحوالهم وأحوال البلاد. ولا تسأموا، لا تتأفّفوا. لا تملّوا ولا تحيدوا بنظركم وتتابعوا كأنّ شيئا مضى، كأنه لم يكن. بيروتُ لا تُنسى، ولبنان صغير ولا يستحقّ. غيلانه كثيرة ومن دون قلب، وأهله أطفال ضاعوا في الغابة الموحشة قبل أن يسقطوا في قعر البئر.
*
لا عزاء. ولا نقطة على السطر. يكفي أن نرى دموع الصبية الأفغانية، بجديلتيْها الصغيرتين الشقراوين، تتحدّث إلى كاميرتها في ما يشبه توجيه وصية أخيرة أو ورقة تنعى موتها. "نحن لا اعتبار لنا لأننا ولدنا في أفغانستان. لا أستطيع التوقّف عن البكاء، يجب أن أجفّف دموعي لأتمكّن من تصوير هذا الفيديو. لا أحد يكترث، وسوف نموت ببطء، في التاريخ. أليس الأمر طريفا". الصبية جميلة كما ينبغي أن تكون كل صبايا العالم، حين يكنّ حرّاتٍ مفعماتٍ بالأمل. جميلة كما ينبغي لمستقبلها أن يكون. جالسة في سيارة برأسٍ مكشوف وثياب عادية تصوّر نفسها بكاميرا هاتف ذكيّ. لا شيء يقول إنها ابنة الأفغانيات التي كنا نراهن في الصور ببرقعهن الأزرق وفتحته التي تشبه طاقة سجن، سوى دموعها المنهمرة على خدّيها.
انسحب الأميركيون وعاد الطالبان، وباتوا في كابول. الصبية تسجّل هذه اللحظة المأساة، مدركة تماما أن هذا يعني موتها وموت كل النساء والفتيات الأفغانيات موتا يوميا أو موتا محققا. في 12 أغسطس/ آب، أعلن البنتاغون عودة ثلاثة آلاف جندي إلى العاصمة، لا لحمايتها أو للدفاع عنها، وإنما للإشراف على ترحيل الرعايا الأميركيين من البلاد. وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، فإن مبعوثين أميركيين فاوضوا "طالبان" على عدم التعرّض لسلامة السفارة لدى دخولهم. عشرون عاما من الحرب في أفغانستان، لم تتعرّض خلالها الولايات المتحدة لكمائنهم. بلايين من الدولارات صُرفت، من أجل هذا؟ الصبية تبكي اغتيال مستقبلها وتخلّي العالم عنها وعن أخواتها، فيما تستحضر الصحافة الأميركية شبح حرب فيتنام وسقوط سايغون، على خلفية دعوة الرئيس الأميركي، بايدن، القادة الأفغان إلى الوحدة في وجه الأصوليين. "ينبغي أن يقاتلوا بأنفسهم من أجل أمتهم"، لا يد أن هذا هو ما تراه الصبية مضحكا، حينما تقول "أليس الأمر طريفا"؟

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"