لا نظير لهذا الضجر اللبناني الجهنّمي

لا نظير لهذا الضجر اللبناني الجهنّمي

16 ديسمبر 2021
+ الخط -

الضجر اللبناني لا يشبه أي ضجرٍ آخر.

هو ليس ضجر من ينتظر. من يرى أن الوقت يطول. يترقّب نهايةً لحالة عادية مألوفة. يستعجل نهاية محاضرة أو موعظة. أو حضور الطبيب، أو خاتمة صفّ من الصفوف، أو الباص القادم ..

ولا هو ضجر المراهق. الملْحاح عادةً، والمندفع. لا يصبر على عمره. يريد أن يكبُر. أن يتخلّص من وطأة أهله ونصائحهم. والنتيجة أنه نزِق، يضجر من أي شيء. يضجر بسهولة. ولكنه يتسلّى أيضاً بسهولة: برفاقه، بألعاب التكنولوجيا، أو ببداية اكتشافه الجنس الآخر .. ضجر المراهق مؤقت، وليس دائماً في مأمن من الأخطار. في عهده تتقرّر معظم الأقدار. ولا هو أيضاً الضجر المعاكِس. ذاك الذي ينال من المسِّن. ضجرٌ نابعٌ من أوجاع جسده "الطبيعية"، من توقّفه عن العمل، من عزلته الاجتماعية، من تراجع همّته. ضجر منبسط، على الرغم من أن وقته مبدّد. ينتظر ولا ينتظر. يتسلّى بصعوبة. ومصيره تقرَّر من زمان.

ولا هو ضجر التَنابِلة ذوي النعمة الأرستقراطية. ضجرٌ يتشاوفون به على الذين يكّدون. هم لا يحتاجون إلى عمل وأجر، أو "مشروع". يعيشون مما ورَثوه أو ملَكوه. وفي كل الأحوال، هم لا يعانون من ضجرهم. يعاملونه بالطرق التي يعرفها أصحاب البحبوحة. ولهذه الغاية يتسلّون. يسافرون، يتزيَّنون، يتنافسون على المجوهرات، يصطادون البطّ والأرانب، يخترعون أعياداً ومناسبات وألعاباً، ليست كلها غبية.

نوائب كثيرة تصيب اللبناني، ومن المفترّض أن تحرّره من ضجره، لكنها لا تفعل ذلك

ولا هو الروتين الذي يشكو منه الأزواج أو البيرقراطيون أو البحاثة الأكاديميون، فالروتين يرمي إلى هدف. وقته موظَّف من أجله. من دونه تتوقف أشياء وأشياء. تصوَّر، مجرَّد تصور، أن ربّة المنزل الزهقانة من الطبخ، ومن جلي الأواني يومياً ثلاث مرّات أو أربعاً .. قرّرت التخلص من زهقها، بالامتناع تماماً عن المهمتين المملّتَين. لـ"كسْر" كهذا الروتين مترتّباتٌ هائلةٌ على "الهدف" الذي أقيم من أجله. أي انتظام الطبخ والجلي كل يوم وفي أوقات محدَّدة، حفاظاً على نظام الأسرة جُمْلة وتفصيلاً.

ولا هو الضجر المسمّى "الأملسْ". الضجر الذي يسبق الاختراع أو الاكتشاف. الذي يضجّ بأنواع مختلفة من التكرار، بأوقاتٍ محدّدة، بطقوسٍ وجهود محدّدة. نيوتن كان زهقانا منها كلها عندما ارتمى تحت شجرة تفاح وأخذ يهزّ أغصانها، بنعومةٍ ثم بخشونة، حتى سقطت التفاحة، فأعلن عن اكتشافه قانون الجاذبية. وضجرُ كبير الفلاسفة الألمان، فريديريك نيتشه، الذي يقول إن أصحاب "الطبائع الأدنى" لا يحقّقون أي فائدة من ضجرهم. يبقون على حالةٍ من التعطّل الكسول. فيما أصحاب "الأرواح الشامخة" يخلقون من هذا الضجر حياةً ذات معنى، مثيرة للاهتمام، مبدعة وخصبة. وفي هذه الحالة، يصبح الضجر عامل تحرّر. لأننا بدءاً منه، وبما نفعل به، في وسعنا أن ننفكّ منه، والتملّص من حياةٍ لا معنى لها.

الضجر اللبناني صار معْدياً. جميع المهتمين بـ"ملفنا" تنْضح منهم تعبيرات الضجر، وهم يتناولوننا.

ولا هو أخيراً الضجر "القاتل"، الذي يعود فيقتله الترفيه، أو التسالي على ألوانها. معادلته تقول بوضوح: إما يقتلنا الوقت، أو نقتله. إما قاتل أو مقتول. هذه العلاقة الدموية مع الوقت أنتجت "بِدَعاً" لا حصر لها. من اقتناء حيوان منزلي، إلى مسلسلاتٍ وشرائط تفيض بها الشبكة، إلى ألعاب "البلاي ستايش"، إلى نظام النجومية، إلى صناعة السياحة العالمية، إلى برامج الريتنغ، الأعلى مشاهدة، إلى برامج التعارف بين الجنسين .. وكلما اقتربت نسمة ضجر في هذه العوالم ذات الغالبية الإفتراضية، زادت طعْنات الترفيه، وبالغ البشر باستهلاكها، كأنهم بذلك يرتشفون إكسير الحياة. ويمكنكَ نعتْ هذا السلاح القاتل ضد الضجر بشتى الأوصاف السلبية: رخيصة، متدفقة، سطحية، عنيفة .. ولكن أيضا لا يمكنكَ التغاضي عن أثرها "الإيجابي" على البشر، على مساعدتها لهم بتمرير أصناف الضجر المتنوّعة.

أما الضجر اللبناني، فشيء آخر. هو فرعٌ استثنائي من فروع الضجر المعروفة. في طيّاته الضجر الأصلي الملازم لتناوب الحياة مع الموت .. وفي "حدوده التوبوغرافية"، يجمع بين السجن، والكارثة الطبيعة، والحكم الديكتاتوري، والإحتلال العسكري، والجائحة.

كل هذه النوائب يفترض أنها تزيح الضجر عن كاهل متلقّيها. ففي كل يوم، وكل ساعة، وكل مقطعٍ من مقاطع الوقت، يحدُث شيءٌ ما، "أكْشِن" ما، أو بالأحرى يتكرّر شيءٌ ما، يهدّد انتظام الحياة ورتابتها، ويشعل الفضول والغضب .. كل هذا حاصل، أي أنه يفترض أنه لا يصيب اللبنانيين بالضجر. ولكنه ينال منهم، ويكون ضجرهم، في هذه الحالة، بئرا عميقا موحِشا، يُفرِغ القلوب من ألفتها، ويلوّنها بالعَتْمة.

لا توجد نهاية، أو يابسة. سلاطيننا الجُدد سرقوا الوقت. واسترجاعه مثل استرجاع الأموال المنهوبة، مرهونٌ بالوقت

والضجر اللبناني صار معْدياً. جميع المهتمين بـ"ملفنا" تنْضح منهم تعبيرات الضجر، وهم يتناولوننا. ضجروا من ألاعيبنا، من مراوغاتنا، ومغْمغتنا، من قلة حياء "مسؤولينا"، من الكذب البواح الذي يتكرّر يومياً على ألسنتهم. الخليجيون، الفرنسيون، الأميركيون، بل الأمم المتحدة .. لوحظت إشارات ضجرهم من لبنان، و"قضيته". بل دخلوا في مشهد الضجر، وصاروا جزءاً منه. كم من مرّة أعلنوا، دانوا، واقترحوا، ونصحوا .. وهم زهقانين، بلغة جسدهم، بنظراتهم، بتعابير وجوههم، بالكلمات المختبئة بين سطورهم.

ضجرٌ يعمل بالسحر، بالمفارقة والعذاب: تُغمض عينيكَ. تقول إنكَ زهقت من لبنان ومن أخباره. تريد أن تهرب إلى عوالم أخرى. بعيداً عن الضجر. ولكنكَ سرعان ما تعود، فينْتابكَ الضجر. وتهرُب ثانية، وتعود وتغلق عينيك. علاقة، غير معروف إن كانت مازوشية، تعذب بها نفسكَ، أو سادية تعذّب بها الضجر.

ضجرٌ منْبعه العجز واليأس. فلو كنتَ قادراً على تقرير مصيرك بيديك، لما سلّمته للأيادي صانعة الضجر بامتياز. واليأس من عقم الضجر هذا، من خطرِه عليك. من تحوّله إلى غيمةٍ غليظةٍ ماثلةٍ في روحك، وحولها. ومن دون أن يكون لها أي معنى. تضطرب، تتجهّم، تقلق، تضيّع بهجتك الفطرية. تصير غريباً عن نفسك، فتتساءل عن سبُل استعادتها.

والمشكلة مع ضجرٍ كهذا أن هذه الاستعادة تحتاج إلى وقتٍ ما. وإن الوقت مع هذا الضجر، إما هو كثير، أو قليل. وفي الحالتين، لا يوجد وقت. لا توجد نهاية، أو يابسة. سلاطيننا الجُدد سرقوا الوقت. واسترجاعه مثل استرجاع الأموال المنهوبة، مرهونٌ بالوقت.