"لا للتهجير"... ليست شهادة حسن سير وسلوك

15 ابريل 2025

(أحمد معلا)

+ الخط -

لا أحد يريد الحرب. فهي ليست لعبة، وهي في الممارسة الواعية "إكراه" سياسي لا اختياراً، أو كما قال وينستون تشرشل في سياق تحفيز بريطانيا لمقاومة النازية "الحرب ليست حلّاً، لكنّها أحياناً ضرورة". لقد اختارت الدولة المصرية منذ توقيع "كامب ديفيد" أن تكون حرب 6 أكتوبر (1973) آخر الحروب، ولم يكن الاختيار (في حينه) خطأً بقدر ما كان الإعلان عنه كارثةً، فما الهزيمة سوى إعلان العجز عن المواجهة. ولا شيء يأتي بالحرب مثل الضعف، فما الذي يمنع عدواً من حربك إذا كان مُوقناً بعجزك؟... لا شيء يمنعه سوى تحصيلُه "كلّ" ما يريده من دون حرب.
أدركت الدولة المصرية ذلك بعد تورّطها في خيار "الاستسلام الاستراتيجي" فحافظت على مسافة بين الخطابات والممارسات، وشغلتها بما يجعل المواجهة "احتمالاً"، لا تريده، لكنّها قد تضطر إليه. رفعت الدولة يدها عن كوابح الغضب الشعبي، في أوقات الاحتياج إلى "الخشونة السياسية"، فإذا بالمظاهرات، ودعوات المقاطعة، وتجميد معاهدة السلام، سبباً للتراجع، تراجع الدولة المصرية عن ليونتها المحسوبة، وتراجع العدو أمام احتمالات حرب مع "بلد" مستعدّ.
حافظت دولة حسني مبارك (كنز إسرائيل الاستراتيجي) على هذه المسافة، ليس لأنها تريد الحرب، بل لأنها لا تريد الهزيمة من دون حرب، وكان لدى رجال الدولة (وليس مبارك وحده) الحدّ الأدنى من "الأهلية"، ومن ثمّ لإيجاد "حلول" مع العدو، الذي استمرّ في العقيدة العسكرية المصرية "العدو"، بألف ولام التعريف (هل لا يزال؟).
لجأت الدولة المصرية إلى استدعاء "الاحتياطي السيادي" في خطابها، بطرائق شتى، بالدبلوماسية الصلبة، بالردع الرمزي، بالقوة الناعمة… اشتعلت الانتفاضة الأولى في ديسمبر/ كانون الأول 1986، وعجزت دولة مبارك عن تسجيل الحضور، فذهبت إلى الدراما، واستدعت من أرشيفها قصّة البطل المصري (لم يكن يوماً عميلاً مزدوجاً سوى في الرواية الإسرائيلية) رفعت الجمال، وحولتها، بعد شهور قليلة، إلى مسلسل رافت الهجان (إنتاج 1987)، لتعيد إلى الوجدان المصري والعربي "ذاكرة المواجهة"، وتُسوق في محيطها الإقليمي أن إسرائيل ما زالت (في الرواية الشعبية المصرية) هي "العدو".
صعدت سينما الشباب على سلم "الحساسية الجديدة"، تغيّرت الوجوه والأشكال والمعالجات، لكن لم تتغيّر "الحساسية" في ما يخصّ العدو التاريخي. حضرت المظاهرات ضدّ إسرائيل وحرقت أعلامها في فيلم "صعيدي في الجامعة الأميركية"، وحضرت الشرطة المصرية كي تقبض على المتظاهرين، وحين واجه أحد المتظاهرين (فتحي عبد الوهاب) ضابط الشرطة وأخبره بأن هذه هي "الإرادة الشعبية"، وبأن كلّ مصري يتمنى حرق العلم الإسرائيلي، و"أنت نفسك تتمنّى تعمل كده"، طأطأ "ممثل الدولة" رأسه، وأخلى سبيل "المتهم بالمقاومة"، وهو ما تكرّر في "همام في أمستردام" و"فتاة من إسرائيل"، و"أولاد العمّ"... رسائل واضحة، تحمل دلالات سياسية مباشرة: إسرائيل هي العدو، ولا سينما ولا دراما ولا "نجم شعبي" في مصر قبل المرور من معابر "المواجهة المحتملة".
توقّف هنا وقارن، قارن بين تشجيع الدولة المصرية (وتنسيقها مع معارضيها) على النزول في مظاهرات حاشدة واستهداف منشآت أميركية وإسرائيلية في واقعة اغتيال محمّد الدرّة (على سبيل المثال)، والقبض على المتظاهرين المصريين "الحقيقيين" في حرب إبادة غزّة، وحبسهم، ولو كانوا أطفالاً، قارن بين موقف الدولة المصرية من الأعمال الفنّية الداعمة للقضية الفلسطينية، في الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي، وموقفها وإجراءاتها الآن مع أيّ فنّان يُعلِن تضامناً حقيقياً (محمّد سلام نموذجاً). قارن بين خطابات الخارجية المصرية الصارمة في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000 - 2005)، وسحب السفير المصري من إسرائيل عام 2000 بعد مجزرة الخليل، و"صمت الأموات" بعد احتلال محور صلاح الدين (فيلادلفي)، وضرب برج المراقبة المصري. قارن، لأن مهمّة من يقاوم بالكلمة هي التحليل والتفكيك، وليس التهليل والتصفيق. قارن لتدرك الفارق بين سلام "الإكراه السياسي" و"السلام الدافئ"، بين المشاركة على قدر الممكن في الردع والمشاركة على قدر المطلوب في الإبادة، بين العسكري "المؤهل" والعسكري "السيكا".
قارن، ثمّ قف حيث شئت، وحيث يليق بك.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان