لا لحكومة "موحَّدة وانتقالية" في غزّة... نعم لجمعية تأسيسية

20 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 03:16 (توقيت القدس)
+ الخط -

قراءة مقالة خالد الحروب عن "الحكومة الفلسطينية الموحَّدة والمؤقتة في القطاع" ("العربي الجديد"، 14/10/2025) ممتعة، لغناها وتحفيزها عدة أسئلة متعلّقة بالتحدّيات الجِسام التي يطرحها "اليوم التالي" لحرب الإبادة، إن كانت هذه الحرب ستتوقّف بالفعل. وليست مقالة كاتب هذه السطور هنا ردّاً، بل استكمال لما تطرّقت إليه تلك، ومحاولة لتقديم تصوّرٍ يتجاوز فكرة إنشاء حكومة فلسطينية مؤقّتة تلبية لاحتياجات "الخارج" أكثر منها انعكاساً لمصالح وطنية قائمة على أسس متينة من الشرعية الشعبية.
بطبيعة الحال، تهدف خطّة الرئيس الأميركي ترامب، والتي تتضمّن تشكيل هيئة إدارية لإدارة قطاع غزّة لملء الفراغ الذي ستسببه عملية انسحاب حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وأجهزتها الحكومية من المشهد الغزّي برمّته، إلى قطع الطريق على احتمال أن تُسارع "حماس" إلى التقاط أنفاسها، وإلى إعادة هيكلة بناها الخدماتية والأمنية كي تعاود تموضعها قوةَ أمر واقع لا سبيل لتجاوزها. فقبل أيام، صرّح وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي لوكالة أسوشييتد برس أن 15 شخصيةً فلسطينيةً من التكنوقراط اختيرت لإدارة شؤون غزّة بموافقة جميع الفصائل الفلسطينية، بما فيها "حماس"، وكذلك إسرائيل التي أعطت موافقتها بعد فحص أسماء أعضاء هذه اللجنة. وأضاف الوزير أن "حماس" لن يكون لها أيّ دور في المرحلة الانتقالية. ويعيد هذا التأكيد المصري التذكير بالتوافق الأميركي ـ الإسرائيلي ـ العربي ـ الإسلامي على ضرورة استبعاد "حماس" من أيّ معادلة مقبلة.

تفرض مرحلة ما بعد حرب الإبادة قطيعةً مع التجربة الفصائلية، وخطاباتها التي عطّلت الكيانية الفلسطينية 

هذا التدخّل الفظّ في الشأن الفلسطيني بمثابة عملية سطو في وضح النهار على القرار الوطني الفلسطيني، وعودة عصا الاستعمار الجديد، وجميع أشكال الوصاية التي عاناها الشعب الفلسطيني. وما هو من الخطورة بمكان أن تكون الخطّة الترامبية ــ الصهيونية الأخيرة مدعومةً وبقوة بالموافقة الرسمية العربية، بل الإسلامية، وهذا يجعلنا لا نستبشر خيراً إزاء هذه التطوّرات الحاسمة. وهنا نتذكّر جيّداً مراحل "أوسلو" (المؤقتة) وحكوماتها الصورية، في ظلّ احتلالٍ يتأبّد ويقضم ما شاء له من الأرض الفلسطينية. لقد كان هذا "المؤقّت" مناورة خبيثة لإطالة عمر الاحتلال غير المُكلف للمحتلّ، فيما فُرّغت "السلطة الوطنية" من مضمونها الوطني، وحوّلتْ أداةً وظيفيةً في خدمة أمن المُستعمِر.
لقد سهّلت حالةُ الانقسام (والغياب الكامل للوحدة الوطنية الفلسطينية) على الاحتلال تحقيق معظم أهدافه، ففي ظلّ انقسامٍ مدمّر وفي غياب الحياة الديمقراطية، استمدّت إحدى السلطتَين شرعيتها من ثقافة المساومة والتفاوض الأبدي، فيما استمدّت الأخرى شرعيّتها من خطابٍ مقاوم ضيّق الأفق، غارقٍ في تصوّراتٍ لا تمتّ بصلة إلى موازين القوى وتحوّلات العالم والإقليم. منذ انتخابات 2006 ــ 2007، توقّف التعبير الديمقراطي الفلسطيني، وتحوّل الاستحقاق الانتخابي عاملَ انقسامٍ دائم، بدلاً من أن يكون ركيزةً لبناء البيت الفلسطيني. وقد عمّقا، غياب الديمقراطية وبروز الممارسات التسلّطية لدى السلطتَين في غزّة ورام الله، الأزمة الوطنية، بل إن تبادل الاتهامات أخيراً بين قطبي الانقسام (بشأن الحملة الأمنية التي تشنّها "حماس" بموافقة ضمنية من "بلطجي" السلام المزعوم) إنما يعكس حالة الانحدار العميقة التي وصلت إليها البنى السياسية الفلسطينية جميعها. وتشير الإعدامات الميدانية، طاولت عملاءَ أو مجرمين، أو من تربطهم صلات بالسلطة المنافسة في رام الله، بوضوح إلى سيادة شرعياتٍ منتزعة قسراً من الشعب، تدّعي الحديث باسمه من دون العودة إليه منذ انتخاباتٍ أكل عليها الدهر وشرب.
قد تُستخدم عودة "حماس" إلى المشهد الغزّي عبر ممارسة عنفٍ غير مسؤول لتبييض صفحة مجرمي حرب الإبادة، عبر تصوير الفلسطينيين متعطّشين إلى الدماء، يرفضون العدالة والمحاكمات، ويفضّلون بدلاً منها ممارسة إعداماتٍ ميدانية. وهذه العودة البائسة، وإن استحضرت تاريخ حركة فتح و"عدالتها الثورية"، فلن تمنح حركة حماس شرعيةً جديدةً بالاحتماء وراء ستار الشرعية الثورية لخصمها اللدود، فاستعراض العضلات واستخدام فائض القوة ليسا دليلاً على العافية، ولن يعزّزا الخطاب المقاوم إلا عبر شرعيةٍ شعبيةٍ حقيقية.
كنّا نتمنى أن تكون عودة "حماس" تعزيزاً لصمود الشعب الفلسطيني (في غزة والضفة الغربية)، بدلاً من هذا الاستعراض الدموي الذي يعكس فزعاً داخلياً وأزمةً وجوديةً بعد توقيعها صكَّ استسلامٍ. إن تخلّي "حماس" عن سرديتها الثورية في التحرير سيحوّلها قوّةً تتماهى مع خصمها في الضفة، ما سيولّد لديها أزمة هُويَّة عميقة وينسف ركائز هيمنتها العقائدية، لتجد نفسها في "بيت الطاعة" الاستعماري ـ الصهيوني، بعد أن تصبح جزءاً من "كلٍّ وطنيٍّ" مهادن. فرغم بطولات صمود الشعب في غزّة، وتضحيات مقاتليه الجسام، يبقى السؤال قائماً (وبقوة): كيف يمكن لنا أن نتصوّر في ضوء ما توحي به مقالة خالد الحروب، وجود عوامل (مجهولة حتى الآن) قادرة على تحويل "اللجنة الإدارية" لتصبح "حكومةً موحَّدةً وانتقاليةً"؟... إن الحالة الرثّة لفصائل العمل الوطني، وتحوّل بعضها أدواتٍ تخدم سياسات المحتلّ، والانقسام المتعمّق، مع بروز مخاطر تحوّل "حماس" منظّمةً وظيفيةً جديدةً، تجعل من شروط هذا الانتقال أمراً صعب التحقّق. فهذه "اللجنة"، ليست سوى إدارة محلّية لغزّة حصراً، ولن تتصدّى البتّة لقضايا سياسية ووطنية عامة، تخصّ الشعب الفلسطيني بمجمله.
من أبرز سمات مرحلة ما بعد حرب الإبادة تراجع المشروع الكياني الفلسطيني، فغزّة ستغرق في تحدّيات إعادة الإعمار عقوداً، وسط ابتزاز المموّلين وأسيادهم في تل أبيب وواشنطن، بينما ستتحوّل الضفة معازلَ منفصلةً تواجه تغوّل الاستيطان والتفريغ الديمغرافي المتسارع. وشعار نتنياهو "لا فتحستان ولا حماسستان» سيكون عنوان المرحلة المقبلة، التي لن تعرف حتى الكيانية "الأوسلوية" المفرّغة من مضمونها. مرحلة ما بعد حرب الإبادة هي مرحلة مفصلية بالفعل، إذ تتجلّى فيها سماتُ بدء مرحلة جديدة بعد مضيِّ تجربة ستّة عقود. عقودٌ من المراوحة في المكان، عقودٌ مكلفةٌ ومريرة، فهي وإن كانت على مستوىً من الغنى، حملت معها أيضاً سلسلة من الإخفاقات والهزائم. لقد تميّزت تلك الحقبة بجملة إخفاقات كان أبرزها استعصاء خيار الحلّ السياسي والتفاوضي وأفول خيار الحلّ العسكري، ممّا يحتّم بالضرورة إحداث قطيعة مع التجربة الفصائلية الماضية، ونقلها جذرياً من أجل التحرّر منها (إن أمكن)، وهذا يتطلّب مساءلةً نقديةً لكل المرحلة الماضية برموزها وبخطاباتها، وبأشكال عملها، وخياراتها السياسية والكفاحية.

المقاومة الحقيقية اليوم ليست في السلاح فقط، بل في تأسيس شرعيةٍ مدنيةٍ جامعةٍ

يطرح افتتاح هذه الحقبة الجديدة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني على الكل الفلسطيني مجموعةً من التحدّيات الهائلة، وفي مقدّمتها إحداث نقلة نوعية في الفكر السياسي الفلسطيني، ما يتطلّب أولاً القدرة على بناء جسم تمثيلي ذي شرعية شعبية حقّة، إذ إن حضور هذا الكيان التمثيلي والشرعي هو الشرط اللازم والضروري لانبثاق استراتيجية فلسطينية تقطع مع ماضي الفشل والانكسارات، فلا معنى لأيّ استراتيجية نخبوية منفصلة عن عمقها الشعبي، وفاقدة للشرعية المستمدّة من التعبير الشعبي العريض بتوسّط العملية الانتخابية. إن الاستراتيجية السياسية الجديدة المتوخّاة لا بدّ أن تمثّل انقطاعاً فعلياً عن الفصائلية وبرامجها المعهودة في الساحة الفلسطينية. الكيان التمثيلي الشعبي والشرعي المعبّر عن الإرادة الجماعية هو فقط ما يمتلك أدواتٍ ناجعةً لإحداث القطيعة السياسية، بل المعرفية، مع برامج ماضي ما قبل حرب الإبادة وشعاراتها.
ستوفّر هذه النقلة النوعية الشروط الضرورية لتجديد شباب النخب الفلسطينية لكي تحلّ محلّ النخب الشائخة، فشباب الغد الفلسطيني هم من سيرسمون ملامح الحقبة المقبلة، وهذا التجديد الجذري للقطع مع الماضي (المتّسم بغياب الديمقراطية الداخلية الحقّة) هو ما سيعيد تقييم التجارب السابقة بإخفاقاتها ونجاحاتها. ولذا، أليس من الأجدر حشد طاقات الشرفاء من المستقلّين والمثقّفين والناشطين في المجتمع المدني، ومن بقايا الفصائل الأقلّ تحزّباً، للدعوة إلى مؤتمر دستوري جمعي أو جمعية تأسيسية للكلّ الفلسطيني؟... جمعية تأسيسية تمثيلية تُنتخب عبر صناديق اقتراع فعلية (حيث أمكن)، وافتراضية عبر تكنولوجيات الـ"بلوك تشين"، كي يتمتّع أعضاؤها بشرعية شعبية حقيقية، مستمدّة من الناخبين في فلسطين الانتدابية وفي الشتات.
ستكون نواة هذه الكيانية الشاملة الكيانية الوحيدة المتحرّرة من تدخّلات الخارج ــ الصهيوني، والإمبريالي، والعربي الرسمي. ولذلك، لن تكون مؤقّتة، بل كيانية دائمة، منتظمة ضمن الدستور التأسيسي للشعب الفلسطيني في كل مكان.

EE503FC4-A9AE-4A40-BF7D-F411F13745A8
EE503FC4-A9AE-4A40-BF7D-F411F13745A8
ناجي الخطيب

باحث وأكاديمي فلسطيني يعيش في فرنسا وإيطاليا. كتبَ عشرات المقالات الصحافية والبحوث وآخر كتابين صدرا له هما: "التعددية ‏الفكرية والمنهجية: المنقذ من الضلال"، 2016 و"الجندر أو النوع الاجتماعي المعولم"، 2015.‏

ناجي الخطيب