لا فرق بين خيمة وخيمة

17 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:51 (توقيت القدس)
+ الخط -

أصبح مؤكدا للجميع أن التاريخ يعيد نفسه بكل صدق ودقّة، وكأنه قد أقسم ألا يفعل غير ذلك، فحين حدّثتنا أمي عن ذكرياتها في أيام اللجوء الأولى في العام 1948، وحين استقر بهم الحال في خيمة على تخوم قطاع غزّة، روت لنا أن أكثر ما كرهته في تلك الأيام هو المساعدات التي كانت تقدم للاجئين الفارّين من قرى ومدن فلسطين المحتلة، وخصوصاً البيض المجفف أو مسحوق البيض، وحين تحدثت أمي عن هذا الصنف اقشعرّ بدني كما يقولون لأني بالكاد أستطيع تناول البيض المسلوق وأحاول ألا أشم رائحته فماذا لو كان على شكل مسحوق تضيف له القليل من الماء وتقوم بالتهامه عوضا عن البيض الطبيعي، وربما تتم إضافته لبعض الأصناف الأخرى، وقد أشارت أمي إلى أنهم فعلا كان يضيفونه لقطع البطاطا المقطعة إلى مكعبات صغيرة بعد قليها أو يضيفونه إلى البندورة أيضا بعد تمام نضجها، ولكن ذلك لا يعني أنك قد تتذوق طعم البيض الحقيقي، مؤكدة أن الرائحة الكريهة لهذا الصنف تدفعك لكي ترفض أي صنف طعام آخر قد يخلط به رغم جوعك الشديد.

لم أكن أتخيل أن يتداول مسمى البيض المجفف هذه الأيام على أنه ضمن الأصناف الشحيحة التي تصل إلى خيام النازحين في قطاع غزة على شكل تبرعات ومساعدات، ولذلك تأكدت أن العالم يكرر خططه وتجاربه السابقة في التعامل مع اللاجئ الفلسطيني المتعب والمنهك والمتألم والنازف فقدا، حتى أن المقارنة ستكون دائما إيجابية كلما تذكرت ما رواه لنا أجدادنا وآباؤنا حين كنّا صغارا، وكأن العالم أيضا يريد تنويم ضميره بأنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من هذا حتى بعدما تغير نمط الحياة ودارت دورة التكنولوجيا التي لم يعرفها أجدادنا البسطاء، ولكنها توقفت عند حدود الخيمة التي قبع بها البائسون يجترون مرارات كثيرة، أولها فقدان الأحبة وربما تركوهم جثثا عالقة خلفهم بعد فقدان البيت الآمن مهما كان متواضعا وبعدما تحول إلى أنقاض وركام.

مر عامان تقريبا على هذه المقتلة التي استنزفت الغزّيين بكل الصور، ولم يعودوا قادرين على تدبر أمر حياة الخيمة المكرر عبر التاريخ وعلى بؤسها، فرغم تكرار صور الحياة التي ظهرت في 1948 إلا أن الأكثر ألماً أن لا بادرة لأي تحسين في أمور حياتهم وهم يدفعون دفعا نحو ساحل غربي ضيق بعدما لاحقهم القتل بكل الصور، فعلى الرغم من أن الأجداد حين حلوا في الخيام بعد النكبة وفي أسوأ الأوضاع المعيشية فهم لم يمكثوا بها أكثر من عامين، وتحديدا في شتاء 1950 ومع البرد القارس الذي مرّت به المنطقة شرعت "أونروا" الحديثة الإنشاء في إسكان اللاجئين ونقلهم لتحسين أوضاعهم المعيشية تزامنا مع ثورة الطبيعة القاسية من خلال بناء مساكن من الطوب والحجر، فتمّ بناء نحو 48.000 مأوى بحيث كانت مساحة كل مأوى نحو 150 متراً مربعاً في المخيمات الثمانية التي أقامتها ما يعرف بلجنة خدمة الأصدقاء الأميركيين التابعة لجمعية "الكويكرز" الأميركية أيضا، والتي كانت تعنى بإغاثة اللاجئين، فأنشأت تلك المخيمات على أراضٍ حكومية خصصتها الإدارة المصرية، وبالتالي فهذه الخطوة حسنت قليلا من واقع اللاجئين، ولكن كانت هناك خطط تُحاك في الخفاء لتوطين آلاف منهم في بلاد أخرى لولا هبة مارس/ آذار 1955، وأدت إلى طرح الرئيس جمال عبد الناصر مشروع التوطين جانباً، وإبراز قضية اللاجئين بوصفها قضية سياسية ونضالية قبل أن تصنف قضية إنسانية.

اليوم لا فرق بين خيمة وخيمة مهما تغير الزمن، ومع عمليات إفراغ مدينة غزة التي تسير بلا هوادة وحيث يدفع الناس دفعا نحو مدن الخيام، ولسان حالهم تذكّر ما حل بأجدادهم، فهناك أيضا النية ذاتها غير المعلنة وبتواطؤ عالمي مشين على إبقاء حال المخيمات في هذا الوضع المرزي لتنفيذ مخطط شيطاني تسعى إليه إسرائيل من أجل تحقيق أحلامها الوجودية.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.