لا انتصارات في هذه المرحلة... بل تقليل الخسائر

20 مارس 2025
+ الخط -

لم يُجمع الفلسطينيون منذ نحو مائة سنة، أو منذ ثورة 1936 على الأقلّ، على أيّ زعيم أو حزب أو برنامج سياسي، حتى أنهم لم يُجمعوا على شاعرهم محمود درويش، وقبله على مفتي فلسطين الأكبر الحاج محمد أمين الحسيني. لكنّهم، في مرحلة الكفاح الوطني المسلّح، أجمعوا حقّاً على منظّمة التحرير الفلسطينية، في سياق اللحظات التي دشّنتها حركة فتح عندما أطلقت الرصاصة الأولى في 1/1/1965. آنذاك، كان برنامج الفلسطينيين "بسيطاً" ويقوم على تحرير فلسطين كلّها من النهر إلى البحر وعودة اللاجئين إلى ديارهم. لكن ذلك البرنامج المثالي اصطدم بالواقع، وأُرغمت القيادة الفلسطينية على الخضوع لإكراهات الواقع بعدما اكتشفت حدود قوتها. ولم يطُل الأمر حتى ظهر برنامج النقاط العشر في 1974 بعد حرب أكتوبر (1973)، التي ساقت الرئيس المصري أنور السادات، بوعي كامل وبخياره الحرّ، إلى زيارة القدس في 19/11/1977. وانتهى به الأمر إلى إخراج مصر من الصراع العربي - الإسرائيلي، وتوقيعه معاهدة سلام مشؤومة مع إسرائيل في 1979. ولمّا كان برنامج النقاط العشر يتضمّن حلّ الدولتَين، أي حتمية الاعتراف بدولة إسرائيل في نهاية المطاف، فقد انقسم الفلسطينيون واصطرعوا وتخاصموا وتجادلوا، وظهرت جبهة الرفض في 1974. لكن تلك الانقسامات، على الرغم من تهافتها، ظلّت تدور تحت الخيمة الواحدة، أي خيمة منظّمة التحرير من دون أن تتخلّع أبواب البيت وشبابيكه.

من الخُبال القول إن إسرائيل، وفي ظهرها الولايات المتحدة وأوروبا كذلك، لم تحقّق كثيراً من أهدافها القريبة والبعيدة

بعد الخروج من بيروت غداة حرب يونيو (1982)، وفي ذروة الانتفاضة الأولى التي أعادت منظّمة التحرير إلى الجغرافيا السياسية، خضع الفلسطينيون للواقع مجدّداً، أي لمؤتمر مدريد للسلام في 1991، وكان لا بدّ من صوغ برنامج للسلام يأخذ في الحسبان ما حدث في 1993 فصاعداً. وهنا انقسم الفلسطينيون كالعادة بين أنصار اتفاق أوسلو (القيادة الفلسطينية في تونس ومعها معظم الاتجاهات الشعبية والسياسية في الضفة الغربية وقطاع غزّة)، والمناوئين لذلك الاتفاق، الذين تجمّعوا في جبهة الإنقاذ في دمشق (اقرأ: جبهة الأنقاض). وقد دُفن اتفاق أوسلو مع اغتيال إسحاق رابين في 1995، ثم أُهيل عليه الركام نهائياً مع اغتيال الرئيس ياسر عرفات في 2004. وكانت جبهة الرفض دُفنت في 1979 بعد انهيار الميثاق القومي السوري - العراقي من دون أي جنازة، وكذلك ووُرِيَت جبهة الإنقاذ الثرى من غير الترحّم عليها. واليوم، ها هم الفلسطينيون، مع الأسى الشديد والأسف العميق، وعلى الرغم من الأهوال التي نشهدها بحواسّنا وأعصابنا ونعيشها بجروحنا وانكساراتنا منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم يتمكّنوا من التوصل إلى رؤية سياسية واحدة أو مشتركة، أو صوْغ برنامج سياسي واحد يساهم في التصدّي لتلك الأهوال ونتائجها الكارثية. فمتى يتمكّنون من السير موحّدين؟ إن لم يكن الآن فمتى؟ هل حين تُستكمل المذبحة في الضفة الغريبة كما ذُبح هذا الشعب في غزّة؟ ومتى يتخطّى الفلسطينيون انقساماتهم الموروثة ويخرجون من أقماطهم التي تكبّلهم مثل ابن مخيّم وابن مدينة، وابن فلاح وابن لاجئ، وإسلامي وعلماني، ومستسلم ومقاوم، و"حماس" و"فتح"، ومواطن أصلي ومواطن عائد؟... ربّما، في هذا الميدان، تأثّر الفلسطينيون بالمدن العربية وحاراتها وأزقّتها جراء إقامة كثيرين منهم طويلاً فيها. فالمدن العربية تنقسم في معظمها إلى حارات مثل حارة النصارى وحارة الأرمن وحارة اليهود وحارة المسلمين وحارة المغاربة وحارة الحوارنة. لكن جزءاً كبيراً من الفلسطينيين تخلّقوا، على ما أظن، بأخلاق مدينة بيروت؛ فهذه المدينة لا حارات فيها ولا أبواب، وأبوابها مندثرة مثل باب إدريس وباب يعقوب وباب السمطية وباب الدركاه، لكن فيها زواريب كثيرة مثل زاروب التمليص وزاروب الحرامية وزاروب أم زكور وزاروب طنطاس... وهكذا. أقول هذا من باب المشابهة العابرة لا أكثر، لأن من غير الممكن الخروج من "الزواريب الفلسطينية" إلا بصوغ رؤية سياسية قادرة (في الحدّ الأدنى) على الإجابة عن أسئلةٍ لجوجة مثل: كيف نصنع مستقبلنا بعدما جرى ما جرى منذ 7 أكتوبر (2023)؟ ما الذي نريده هدفاً استراتيجياً؟ دولتان أم دولة واحدة أم دولة علمانية ديمقراطية أم دولة ثنائية القومية؟ كيف يُمكن تحقيق ما نتطلّع إليه؟ وما هي أساليبنا الفاعلة: النضال السلمي المدني أم المقاومة الشعبية التي تتضمّن مقاديرَ محسوبةً جيّداً من العنف الثوري، أم النضال الأممي الشعبي والدبلوماسي؟

الواقع المرّ اليوم يُرغمنا على التفكير جدّياً في أن هذه المرحلة ليست مرحلة تحقيق الانتصارات، بل مرحلة تقليل الخسائر

من دون الإجابة عن تلك الأسئلة، ومن غير إحداث ديناميات سياسية مواكبة للأجوبة، سيبتلع الاستنقاع جميع النُخَب الفلسطينية المفكّرة والمناضلة، وستصبح العربة الفلسطينية مثل العظام المهشّمة والمتكسّرة، لأن أيّ عربة يجرّها حصانان، كلّ في اتجاه معاكس، لن ينجم عن ذلك غير تحطيم العربة. ومن نافل القول إن قضية فلسطين حقّقت حضورها القوي مع تأسيس منظّمة التحرير في 1964، ثمّ انطلاقة حركة فتح في 1965. وكان جمال عبد الناصر لا يزال، على الرغم من صدمة انفصال سورية عن مصر في 1961، في ذروة زعامته. وكانت الحرب الباردة والتوازنات الناجمة عنها تتيح مظلّةً واقيةً نسبياً لحركات التحرّر الوطني في العالم الثالث، الأمر الذي مكّنها من إحراز الاستقلال الوطني كما حدث في الجزائر وكوبا وفيتنام وغانا والكونغو على سبيل المثال. وكان المشرق العربي (مصر وسورية والعراق)، على الرغم مما شاب علاقات تلك الدول بمنظّمة التحرير الفلسطينية من منافسات واختلافات، يحتفظ بكثير من قوّة الدولة الحامية التي تشكّلت بعد الحرب العالمية الثانية. أمّا اليوم، فإن الاستكلاب الأميركي بلغ ذروة سُعاره، ولا أحد يردّه. ونجحت الولايات المتحدة وإسرائيل في تحطيم فكرة الأمن القومي العربي، وفكّكتا الجماعة الوطنية في سورية والعراق ولبنان واليمن والسودان وليبيا (إثنيات وطوائف وعشائر وأقلّيات)، فعمّت الرثاثة حتى خمّت. أمّا روسيا فها هي تستجدي حلاً من أميركا في أوكرانيا. وأحوال العراق وسورية على ما علمتم وذقتم، ومصر غير قادرة حتى على حل مشكلة "الزبالة" في حارات العاصمة، أو زحام السيارات وسخامها في شوارع القاهرة. ثمّ إن جمال عبد الناصر ما عاد موجوداً إلا في التسجيلات والأرشيفات، ودول الجوار العربي (تركيا وإيران وإثيوبيا) يغمرها الحبور والسرور لما أصابنا، لأن من شأن ما حلّ بنا أن يُهدّئ وجيف قلوبها، فلا كلام بعد اليوم عن الإسكندرون وكيليكيا وأنطاكيا والأحواز وشطّ العرب ومياه دجلة والفرات. وها هي المياه تقطعها تركيا وإيران عن سورية والعراق كلّما رغبت، وتتصرّف إثيوبيا في مجرى النيل كأن مصر مثل جزر القمُر، وما كان في إمكان الحبشة أن تمدّ يدها إلى صفيحة واحدة من الماء من دون إذن مصر في عهد عبد الناصر. وهذه الحال إنما تعكس مدى تدهور موقع مصر الاستراتيجي في أفريقيا.

استمرار الكلام عن المقاومة والصمود بلغة مجرّدة، يعكس جفاف المخيّلة السياسية الفلسطينية

في خضم هذه الأحوال، كيف يمكن صوغ رؤية سياسية فلسطينية جديدة، وتحديد الأهداف الممكنة لا المستحيلة؟... هذا تحدٍّ فكري وسياسي ونضالي وعملي تنوء به أكتاف النخب الفلسطينية المُجرِّبة. وحبذا، في هذا الحقل من التفكير، لو أمكننا الاتعاظ من تاريخنا الماثل أمامنا الآن، فلعلنا نستطيع أن نبني رؤيتنا، لا على الرومانسيات، ولا على "الانتصارات العظيمة التي حققناها"، بل على الوقائع الصحيحة الموجودة أمام عيوننا، من أجل تغيير ذلك الواقع أو تعديله. والواقع المرّ اليوم يُرغمنا على التفكير جدّياً في أن هذه المرحلة ليست مرحلة تحقيق الانتصارات، بل مرحلة تقليل الخسائر، وإيجاد المخارج من الأَشراك التي أطبقت علينا، ثم محاولة النجاة منها.

من الخُبال القول إن إسرائيل، وفي ظهرها الولايات المتحدة وأوروبا كذلك، لم تحقّق كثيراً من أهدافها القريبة والبعيدة؛ فقد غيّرت ملامح الشرق العربي كلّه، وصنعت موازين قوى جديدة بعد تدمير سورية وإبعاد إيران، وها هي تعبث بالتكوينات الطائفية والإثنية في سورية بالتحديد. وليس من قبيل الاستنتاج القول إن إسرائيل مستعدّة لاقتراف الإبادة العرقية في فلسطين بالقدر الذي يتيح لها ذلك تحقيق الإبادة السياسية (Politicide)، أي إخماد الوطنية الفلسطينية ومنع الفسطينيين من أن يتقدّموا في يوم نحو التحوّل إلى كيان سياسي حرّ ومستقل. ومع ذلك، ثمّة صناعة للوهم وتسويق للفشل باعتباره انتصاراً، وهو ما يجد تلذّذاً لدى جماعات غير قليلة من الفلسطينيين، وهو شأنٌ شعبيٌّ لا يمكن تفاديه أبداً، لأن من المحال اختراع شعب فلسطيني جديد من العلماء والمفكّرين (إلّي بتحطو بالدست بتشيلو بالمغرفة). وفوق ذلك، عاد الكلام ليتفشّى مجدّداً عن قرب زوال إسرائيل استناداً إلى حسابات الجُمل (القبالاه اليهودية)، ومعه يتصاعد تمجيد البؤس تحت مسمّى الصمود والبقاء في الأرض (وأي أرض بقيت؟). بقاء هذه الأوهام، وهي كثيرة جدّاً، مرهونة حقاً بالتفكير العلمي الذي يعني بدهياً، في حالتنا الراهنة، صوغ رؤية سياسية جديدة وتحديد روافعها ودوافعها وتوابعها، والانخراط بوعيٍ ومسؤوليةٍ في تجسيد تلك الرؤية على المستوى العملي. وهنا، في هذا المجال من التفكير لا أُجانب الواقع إذا قلتُ إن المقاومة في مخيّمات الضفة الغربية يجب أن يُبحث مصيرها بأدواتٍ تحليليةٍ نقدية وجدّية، كأن تكون سرّيةً تماماً وبلا طنطنة. أمّا الاستعراضات فهي أدّت (وتؤدّي) إلى تدفيع الشبان الفلسطينيين المتحمّسين والغاضبين أثماناً باهظة من دون أي مقابل؛ فاللعب بالنار لا يجعل النار لعبة. وفي أي حال، إذا كانت السلطة الفلسطينية، أو حتى منظّمة التحرير، قد بنتْ استراتيجيتها منذ فترة طويلة على استمرار السعي نحو حلّ الدولتَين بالتفاوض، وعلى اعتماد المقاومة المدنية في مواجهة الاستيطان والمستوطنين، وعلى الدبلوماسية في المجال الدولي، وعلى اللجوء إلى الأمم المتحدة عند كلّ عدوان إسرائيلي، فنحن، في المقابل، لم نتورّع عن وصف تلك الاستراتيجية بالسكونية غير الفاعلة. فما هي إذاً الاستراتيجية البديلة؟... ومهما يكن الجواب، يعكس استمرار الكلام اليومي عن المقاومة والصمود بلغة مجرّدة جفاف المخيّلة السياسية الفلسطينية ويبوسة التفكير المكرور. وهنا، لا خيار لدينا غير المثابرة في قدح الشرر في هذا العماء العربي والفلسطيني الذي وصفه عزمي بشارة بـ"النفق الذي لا نور في نهايته"، لعلّ شرارةً تُشعل سهلاً.