لام شمسية وأُخرى قمرية

27 مارس 2025
+ الخط -

لا يحتاج الأمر إلى خطاب يلقيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتأشير إلى الخلل المريع الذي أصاب الدراما المصرية في مقتل، منذ نحو عقدَين على الأقلّ، بسبب دخول الدولة (الأجهزة الأمنية تحديداً) في خطّها وهي لم تكن بعيدة عنها تاريخياً، ولكن ليس بمثل هذه الفجاجة التي حوّلت الدراما إلى عمل من أعمال الدعاية للنظام، وفي أعمال اتّسمت بالضخامة الإنتاجية، وقامت على الإعلاء من شأن البطولة الفردية بإفراط، سواء في "الاختيار" أو "جعفر العمدة"، أي في الدراما التسويقية ذات الهدف السياسي، أو الاجتماعية التي أهانت حتى الصور النمطية للرجل في المنطقة العربية.

لقد أُزيح الواقع تماماً لصالح آخر متخيّل، بغرض تكريسه ضمن ما يمكن وصفها بهندسة الدراما وتوجيهها، بل ووضعها في قوالب ناجزة، لهدف وحيد، تمجيد النظام في حروبه على ما يسمّى الإرهاب، أو إنتاج واقعية جديدة منفصلة فعلياً عن واقع الناس في البلاد، واقعية موازية، نسخة أخرى تشبه التلاعب الجيني، بلا جذور حقيقية ولا خيال فنّي يعيدك إلى إبداع الثنائي الكبير في مسيرة الدراما المصرية (أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ)، أو حتى محمد فاضل إذا شئت.

كان ثمّة صراع بين توجّهين لا مدرستين في الدراما المصرية خلال العقدين الفائتين: تجاري موجّه بفجاجة، وآخر مستقلّ يسعى إلى استعادة روح الدراما والسينما والمسرح في بلادٍ أنتجت الجزء الأكبر والأكثر أهميةً وتأسيساً في مسيرة الفنّ العربي.

وما يُحمد لصناعة الدراما المصرية حيويتها وعدم استسلامها للهزيمة رغم مغرياتها، ومنها الإنتاج السخي (وبعضه سعودي – إماراتي)، سواء بالإنتاج المباشر أو الشراء، إضافة إلى الحظوة عند نظام جديد لا يعرف بالضبط ماذا يريد، على خلاف سابقيه، من جمال عبد الناصر إلى حسني مبارك، اللذيْن بقدر ما تدخّلوا أنظمةً بقدر ما أفسحوا المجال للمواهب لأن تواصل إبداعاتها، حتى في حال التوظيف الذي كان أكثر ذكاءً ممّا رأيناه في السنوات الماضية.

يمكن اعتبار مسلسل "لام شمسية"، من إخراج كريم الشنّاوي وبطولة أمينة خليل، ضمن التيّار المُقاوِم، الذي يسعى إلى إعادة الدراما المصرية إلى مسارها الأصلي والأصيل، من حيث ملامسة الواقع حتى لو كان خشناً، والتحديق فيه بعينَين ناقدتَين، لكن بذكاء، وهو ما بدأنا نراه في أعمال أخرى للشنّاوي ومحمد شاكر خضير ("تحت الوصاية" في 2013، و"إخواتي" في 2025، على سبيل المثال)، وتامر محسن ("قلبي ومفتاحه"، و"لعبة نيوتن"، و"تحت السيطرة")، وهم من المخرجين الشبّان الذين أنتجوا أفضل ما شاهدناه من الدراما الرمضانية في السنوات الماضية، وتتناول أعمالهم واقعاً يُراد له أن يُطمَر، أو يتنحّى، بمخيالٍ يرتقي به ويحرّره من واقعيّته المفرطة ويحوّله فنّاً حقيقياً، يتبنّى قضايا من دون أن يسقط في وحل الدعاية الساذجة أو الشعبوية المُسفّة.

يقارب "لام شمسية" واحداً من تابوهات المنطقة، وهو التحرّش بالأطفال، بذكاء وقسوة في الوقت نفسه، من دون أن يتحوّل بياناً اجتماعياً أو مظاهرةً في ميدان، ويعود ذلك إلى سيناريو مُحكَم ورؤية إخراجية تحرص على درامية العمل أكثر من مقولاته، وهي معادلة صعبة ما كان لها أن تتحقّق لولا الأداء الاستثنائي لأمينة خليل، وهي من أفضل بنات جيلها، إلى جوار منى زكي ونيللي كريم.

وثمّة ذكاء لا بدّ من الإشادة به في العنوان نفسه، وهو جزء من نشيد أو كلمة يلقيها بتعثّر الطفل (موضوع التحرّش) في ساحة المدرسة، إذ ثمّة لام شمسية مخفية "متخبّية زي السر وزي الذنب"، وقمرية "زي الباب والعين والقلب"، ما يلخّص صراعاً بين لامين، بل عالمين، في المسلسل الذي يضيء بقسوةٍ عتمةَ اللام المخفيّة ويُعرّيها، فإذا هي انتهاك للطفولة واعتداء غير رحيم ينبغي وقفه.

ومما قرأنا عن ظروف الإنتاج، استعان المخرج الشاب كريم الشنّاوي بأخصائيين نفسيين واجتماعيين خلال الكتابة الأخيرة للسيناريو، وخلال تصوير بعض المشاهد، وهو ما رأيناه في أريكة فرويد التي خضع لها أبطال المسلسل ضمن العمل الدرامي نفسه، فالمشاهد التي يظهرون فيها في عيادة الطبيب النفسي كُتبت عن درايةٍ عاليةٍ بالتحليل النفسي الحديث، وهو ما حوّل المسلسل ورشةً متعدّدة الجوانب والأهداف، ويكشف احترافاً عالياً في الإنتاج، يحترم عقل المشاهد وهو يخاطب قلبه ووجدانه.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.