كيف يُكتب عن هؤلاء العائدين؟
فلسطينيون غزّيون عائدون إلى اشمال في شارع الرشيد (27/1/2025 فرانس برس)
تفرّ المفردات والعبارات، لا تستقيم للمعنى الذي تُريد، ولا للمجاز الذي تحاول بلوغَه. ينطقُ المشهد المُعجز بكل شيء، فما الداعي لأن ينكتب أيُّ كلام أو قول؟ هكذا تحدّث نفسك. ولكن هذا منطق عاجزين، ممن معاجمهم ضيّقة، ولغتهم مختنقة، ومخيّلاتهم بليدة. غير أن هجاءً كهذا، بكل ما فيه من منطق، لا يُسعفك بالذي يفرّج عنك، ويأتي لك بما يحرّرك من حيرةٍ باهظةٍ أمام ملحميّة عودتهم هناك إلى شمالٍ من جنوبٍ كانوا فيه، لمّا ارتحلوا إليه عندما أرادوا النجاة وموتاً أقلّ. إنهم يعودون إلى منازلهم التي صار أكثرها خرائب لا تحميهم من مخاطر مؤكّدة. يعودون إلى حيطانٍ هدَمها العدو بقصد إماتة كل ظلالٍ لها. يعودون إلى بقايا غرف نومٍ ومطابخ وفناءاتٍ ضجّت بالوداعة والأنس وهمس الصبايا وأصوات القطط الأليفة. يعودون إلى حكاياتٍ لهم وفيهم ومنهم تركوها. كلُّ واحدٍ منهم يعود إلى بيته. والبيتُ في بعض معانيه المستقرّ. وكيف للروح أن تعثر على مستقرٍّ لها في خارج مكانٍ يغادر مكانه. والعودة إلى البيت لا تحتاج مجازات الشعراء وقرائح الأدباء للقول عنها إنها راحة النفس وسلامها.
راجلين وفي سياراتٍ وعرباتٍ وعلى دواب، مثقلين بحوائج مرتجلة، محمّلين بمراراتٍ صعبةٍ يجرّونها مع فجائعهم، متعبين بنفورهم من أن يكونوا أبطالاً، مصحوبين بقوةٍ في حشاياهم، لا نقدر على معرفة مقاديرها تماماً، فالتجربة المعاشة وحدها ما تصنع هذه القوة، أو الجسارة على أن تطمئن هناك، في المنازل المضروبة وفي جوارها وبين الركام المهول. لا تأتي لك معاجمُ العربية ولا إبداعات الشعراء والروائيين والقاصّين بمسمّىً للعلوِّ الشاهق الذي تبدو عليه هذه العودة الفوق استثنائية، والتي ترمي ذوي القذى الحامض في عيونهم، ممن لا يروْن آلام هؤلاء الناس كما يلزم أن تُرى، بما يلزم أن تُرمى به. أكان من أولئك رئيسٌ أصفر العقل يتوهم نفسه صاحب المبتدأ والخبر، أو قليلو الدراية والعلم، ممن يظنّون في النازحين جنوباً العائدين شمالاً محض ضعفاء، يستنجدون بالميسور ضد المستحيل.
ربما يحتاج أهل الصنعة في الكتابة الرفيعة أو أهل الأدب المتجلّي شيئاً من وقت ليعثروا على عظيم العبارة، وعلى فريد القول، في التعبير عن بعيد المعاني وجواهرها في هذا السير الطويل، والكثير، والذي يعبئ مشهدُه العينين كلتيهما، الشارع الذي لا تظهر له بداية ولا نهاية، يوازيه البحر، ووديانٌ أو ما يشبهها وطرقٌ على شيء من الوعورة. أما الناسُ فنساءٌ وشيوخٌ وشبانٌ وفتيةٌ وصبايا وأطفالٌ وشبّانٌ وعجائز، وكلهم في امتدادٍ كأنه النفير إلى فعلٍ ما، كأنه حجيجٌ مناسكُه الذهاب إلى أعلى، والصبر ضدّ التعب، والفرح المكتوم، ونشدان الوصول إلى أملٍ ما، وحماية الحكايات عن آلامٍ ما انفكّت تضرب الأبدان والأنفاس والأرواح، لا من وحشيّة المعتدين وصواريخهم ومقذوفاتهم فقط، وإنما أيضاً من آثام الأقربين والأبعدين، وصوْن أوجاعٍ أدمت كثيراً وطويلاً من النسيان. كأنه سفَر الدموع، المكتومة والمُعلنة إلى حيث أمكنتها، بين خيام جديدة، بين أنقاضٍ تُجاورها أنقاض، بين مسافاتٍ تأخذ الأحلام البسيطة، والأمنيات الخائفة، إلى مسافاتٍ أقرب، تصبح البلاغة فيها أقرب إلى العاديّ المشهود، وإنْ بين خرابٍ مريع، قالوا إنه غير معلومٍ منذ حروب كونية كبرى.
أولئك العابرون من جنوبٍ إلى شمالٍ يستفزّون صائدي المجازات، فصنيعُهم القيّاميُّ يقول إن في الوسع أن يُرى الإعجاز عادياً، طبيعياً، على بساطةٍ بلا لغوٍ ولا بحثٍ في المساحات بين العالي والأكثر علواً. استعان عدوُّهم المسلح منذ زمان قديم بالخرافة ليصنع أسطورته ضحيةً في التاريخ، العتيق منه والقريب. هنا، في محاذاة البحر، وفي الشارع الذي يُرشد خطوات المسافرين فيه إلى الشمال الذي ينشدون فيه لقاء الباقين هناك، وتحسّس البيت المتصدّع أو النازل من فوقٍ إلى تحت أو المرتجّ أو الذي استعصى على شهوة العدو المحشوّ بأوهام النصر على عزّلٍ محاصرين. هنا، في المشهد الذي لا تسع له شاشة التلفزيون، لا يصنع الناس فيه بطولةً لم يشتاقوا إليها يوماً، وإنما يحفرون في دروس التاريخ وتجارب الإنسانية وفي التاريخ كله معنىً لمفهوم البقاء، لارتباط صاحب الأرض بها، معنىً يهزم فائضُ البساطة فيها فولاذ الدبابات وقذائفها، ويهزم الجوهريُّ فيه ذلك العُظام الفظّ في العدو المُكابر، وهو يقتل ويهدم ويكذب.
مليون وردة وأكثر إليكم، أنتم العائدين من جنوب غزّة إلى مساقط أرواحكم في الشمال. مليون وردة وأكثر إلى كل أهالي غزّة في كل جنوبٍ وشمالٍ وغربٍ وشرق.