كيف نكون معارضةً جذريةً من دون إعادة الاستقطاب؟

15 ابريل 2025
+ الخط -

لم تدخل سورية بعد سقوط النظام (نهاية عام 2024) لحظة انتصار، بل مرحلةً شديدةَ التعقيد، كشفت أن إسقاط السلطة لا يكفي في حدّ ذاته لتدشين مرحلة جديدة، ففي غياب مشروع واضح لما بعد الاستبداد، اندفع المشهد السياسي إلى حالة من التنازع على المعنى، وتنافرت قوى المعارضة في سباق محموم على احتكار سردية الثورة، لا على بناء الدولة. في خضمّ هذه الفوضى، بات الحديث عن "المعارضة الجذرية" محفوفاً بالتباساتٍ عميقة، إذ اختُزلت الجذرية، في أحيانٍ كثيرة، إلى تصعيد لغوي أو تموضع أخلاقي راديكالي واتهامات وقوائم سوداء، فيما أُغفل معناها الحقيقي؛ القدرة على تفكيك المنطق الذي أنتج السلطة لا مجرّد معاداتها.
ليست الجذرية في رفع الصوت، بل في مساءلة ما يبدو بديهياً، وفهم آليات السيطرة كما تتسرّب في الخطاب، والمؤسسة، والوعي العام، وحتى داخل الحركات المُعارِضة ذاتها. في هذا السياق، تفقد المعارضة معناها حين تعيد إنتاج الاستقطاب نفسه الذي كان سمةً للنظام المخلوع، فمنذ الأيام الأولى لما بعد السقوط، طفت في السطح نبرات تصنيفية تفرز المشهد بين وطنيين وخونة، بين أصحاب شرعية وثوريين ناقصين. هكذا تتحوّل المعارضة سلطةً رمزيةً، تُقصي باسم الطهارة، وتخوّن باسم المبدأ، وتُنتج لغةً لا تحتمل التعدّد، بل تحاصر كلّ اختلاف تعدّه تهديداً للثوابت.
السلطة في هذا المعنى لا تُختزَل في جهاز قمعي أو قصر جمهوري (بحسب فوكو)، هي نمط تفكير، وشكل في توزيع الشرعية، وآليةٌ لإنتاج الهُويّة الجماعية. حين تعيد المعارضة تكرار هذه الأشكال (حتى من غير قصد) فإنّها تتحوّل مرآةً معكوسةً للنظام، لا إلى نقيضٍ بنيوي له. وهنا المفارقة المؤلمة، أن تفقد الثورة قدرتها على التجاوز، وتغرق في صراع الذاكرة، بدلاً من أن تنشغل ببناء المستقبل، ومواجهة عُسف السلطة الناشئة.
ثمّة أشباحٌ تملأ الفضاء السوري اليوم، أشباح من الذاكرة لا تزال حاضرةً في الوجدان العام، شهداء وسجون ومذابح وصدوع طائفية، لكنّ الخطر لا يكمن في حضور الذاكرة، بل في الطريقة التي تُستثمَر بها سياسياً، حين تتحوّل المعاناة إلى أداة فرز جديدة، تُستدعَى لتبرير الهيمنة أو الإلغاء، فتُصبح الثورة رهينةً لماضيها، لا مشروعاً للانعتاق منه.
لا تبدأ العدالة الانتقالية بالانتقام، بل بالاعتراف، ولا تتحقّق بإقصاء الآخر، بل ببناء عقد سياسي يتّسع للاختلاف. وحين تستقرّ الثورة في خطاب الضحية وحده، من دون مساءلة ذاتية، فإنها تحوّل الألم هُويّةً ثابتة، وتحوّل الخصم شيطاناً، وتُنتج ذاكرةً غير قابلة للتعايش. في المقابل، لا تكون السياسة في مثل هذه اللحظات امتحاناً للثأر، بل اختباراً للقدرة على التحوّل، من سردية المعاناة إلى مشروع للعيش المشترك.
في ظلّ الإعلان الدستوري المؤقّت، بدأت تتبلور ملامح نظام سياسي جديد، يحمل، في طيّاته، قلقاً عميقاً من إعادة إنتاج إقصاء باسم الشرعية. بعض المواد، كتحديد الهُويّة الدينية لرئيس الدولة أو مرجعية الشريعة، أعادت إلى السطح مخاوف قديمة، خصوصاً مع تصاعد التوتّرات الطائفية بعد المجازر الأخيرة في الساحل، لكنّ الخطر ليس في النصوص وحدها، بل في غياب النقاش العمومي الحرّ عنها، وخصوصاً عمّن يوافق عليها وعمّن يرفضها، والحوامل الاجتماعية للموافقين والرافضين.
التحوّل من خطاب الثورة إلى مشروع الدولة يتطلّب تفكيكاً جادّاً لمفهوم "المُعارَضة" نفسه، بوصف المعارضة لا قوةَ رفضٍ فحسب، بل قدرة على البناء، واقتراح تصوّرات بديلة، لا تكرّر أشكال السلطة السابقة بأسماء جديدة. معارضة ترفض أن تكون سلطةً مضادّةً، وتسعى بدلاً من ذلك إلى إعادة تعريف الفضاء السياسي نفسه، عبر خطاب يُدرج التعدّد بدل أن يقمعه، ويحتفي بالاختلاف بدل أن يحوّله تهمةً.
سورية بلد لا يمكن احتواؤه ضمن مقولات الهُويّة الأحادية. تعدّده الإثنيّ والدينيّ والسياسيّ لا يمثّل عائقاً أمام بناء الدولة، بل هو شرطٌ من شروطها، وأيّ مشروع لا يأخذ هذا التعدّد على محمل الجدّ، يتحوّل نسخةً محدّثةً من الإقصاء باسم الوحدة.
ما بعد السقوط ليس نهاية المعركة، بل بدايتها الحقيقية. الثورة لا تُقاس بما أسقطته فحسب، بل بما ستبنيه لاحقاً، والمعارضة التي تستحقّ هذا الاسم هي التي تخرج من أَسر الثنائية، وتتقدّم نحو صيغة سياسية جديدة، تُنقّب، وتفكّك، وتؤسّس. تكمن الجذرية في عمق السؤال. والسياسة لا تبدأ حين نُسقِط أحداً، بل حين نتوقّف عن تكرار ما سقط بالفعل.

سمر يزبك
سمر يزبك
سمر يزبك
كاتبة وروائية وإعلامية سورية
سمر يزبك