كيف نفهم أميركا؟
تشبه الولايات المتحدة متجراً كان الأول من نوعه في القرية الكونية، ودائماً ما يسبق كلّ منافسيه بخطوات إضافية، بفعل تقديمه الجديد. بموجب هذه الريادة يُصبح صعباً على المنافسين اللحاق به، مهما فعلوا، وحتى لو اتحدوا. وفي عالم الذكاء الاصطناعي اللامتناهي، حسم الرئيس الأميركي دونالد ترامب مسألة تحويل الولايات المتحدة عاصمةً عالميةً لهذا القطاع، كما حصل في التاريخ الحديث، تحديداً بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، من استقطاب العمّال المهرة والأذكياء من مختلف أصقاع الكرة الأرضية، للمحافظة فقط على التقدّم الأميركي، فإن أمام الولايات المتحدة عقوداً من القيادة في العالم. يعود ذلك حصراً إلى فهم جدوى التقدّم التقني، الذي ينبذه كثيرون في الكوكب، تحت شعارات ثقافية ودينية وقومية وغيرها، تماماً كما نبذوا في السابق التلفزيون والراديو والموسيقى والإنترنت والسينما، قبل أن يفهموا أن المشكلة ليست فيها، بل فينا، بما نختار وما نشاء.
اختار الأميركيون أن يجنحوا أكثر، والابتعاد عن الصين، أقرب مطارديهم، بسنوات ضوئية، في مقابل تقهقر روسي اعتيادي في نهايات كلّ أمّة. لا يعود ذلك إلى ترامب وما يريد، ولو أنه ظهر قوةً دافعةً لسام ألتمان وإيلون ماسك ومارك زوكربيرغ، عبر طرح استثمارات تجاوزت 500 مليار دولار لتمويل قطاع الذكاء الاصطناعي. الأساس أن النظام الأميركي كان جاهزاً للانتقال إلى المرحلة التالية، مع بدء عهد رئاسي جديد، مهما كان الرئيس. هنا، لا يبدو أن الصينيين والروس، ولا الأوروبيين، قادرون على مجاراة الأميركيين، خصوصاً أن التمويل والمواد المرتبطة بقطاع الذكاء الاصطناعي ليست متوفّرة بكثرة خارج الولايات المتحدة. في المقابل، فإن الروس الغارقين في أزمة اقتصادية (ما زالت في بداياتها)، سيطيح أي تخفيض لأسعار المشتقات النفطية بإنتاجهم العسكري المتزايد بسبب غزو أوكرانيا، خصوصاً أن العقوبات الغربية دفعت موسكو إلى الاعتماد على الصين بشكل خاص لتصريف إنتاجها النفطي والغازي، وتمويل اقتصادها.
أمّا الصينيون، فإن التعثر الاقتصادي، الذي تلا تفشّي وباء كورونا في عام 2020، ألقى بظلاله على محاولتهم مضاهاة الاقتصاد الأميركي في غضون سنوات قليلة. لكنّهم، في هذه السياقات، ينتبهون إلى ابتعاد كوريا الشمالية عنهم واللجوء إلى روسيا من جهة، وإلى تنامي الخلافات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، خصوصاً مع الفيليبين، من جهة أخرى. أمّا لجهة الأوروبيين، فإن حرب أوكرانيا وصعود اليمين المتطرّف بفعل ضعف الاقتصاد والهجرة، لن يسمح لهم بتخصيص الموارد لقطاع الذكاء الاصطناعي.
يعني ذلك أن العالم أضحى أمام حقبة مختلفة عن سابقاتها، لأن المفاهيم التقليدية في العلاقات الدولية، والحركة التجارية، والسلوكات السياسية، ستختلف من جهة واحدة، أي الأميركية. وسيضطر باقي العالم الغارق بأزمات أكثر حدّةً من الدَّين الأميركي، لمحاولة اللحاق بالأميركيين أو التفاهم معهم بشروطهم. واقعان في لبنان وغزّة يُظهران هذه الحقيقة، في لبنان، الأميركي طرف قيادي في لجنة الإشراف الخماسية على وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل. في غزّة، الأميركي جزء من لجنة ثلاثية لمراقبة وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل.
المشكلة أن جزءاً لا يُستهان به من المجتمعات العربية سيستهزئ بالذكاء الاصطناعي، وينسج حوله سرديات واهمة لخشيته منه فقط. وهي مشكلة تتكرّر في كلّ مرّة يبرز فيها نموذج تقني معروف أنه سيُغيّر الكثير، بدءاً من الراديو. لا حدود للتكنولوجيا، إنها تنمو بمقدار تطوّر الأدوات المحفّزة على نموّها. النظام الأميركي فهم ذلك ومنحها أسباب تقدمها كلّها، مدركاً أن في ذلك نمواً لقوته في الداخل ونفوذه في الخارج. هنا تكمن "قوة أميركا"، في تأكيدها أن الاعتقاد بوجود حدود لسلطة أو نفوذ، أي الجمود، هو بداية نهاية. كم من ملوك ورؤساء وصلوا إلى عروشهم وكانوا ظالمين، لاعتقادهم بأن جمودهم يفضي إلى جمود شعوبهم، ثمّ في لحظة ما تحرّك الشعب وصار الجامد خارج التاريخ! الذكاء الاصطناعي بداية عالم آخر.