كيف غيّر سقوط الأسد وجه المشرق العربي؟

19 فبراير 2025
+ الخط -

إذا طُلب أن أُحدّد خمسة أحداث أو محطّات كبرى شكلت تاريخ المشرق العربي خلال المئة عام المنصرمة، فستكون على الأرجح: أولاً، الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي أنهت عهد الإمبراطوريات في النظام الدولي، ونشأ على أثرها الشرق الأوسط الحديث، وقوامه الدولة الوطنية. المحطة الثانية نكبة فلسطين، عام 1948، التي تسبّبت بإيجاد تهديد وجودي للعالم العربي (إسرائيل)، وفي إطلاق سلسلة انقلابات عسكرية، وثورات اجتماعية عربية تداخل فيها المحلي بنزعات التحرّر من التبعية للأجنبي، وكان من تداعياتها أيضاً وأد التجربة الليبرالية العربية الوليدة، والتأسيس لكل حروب العرب مع إسرائيل، وصولاً إلى آخرها وأطولها؛ حرب غزّة (2023 - 2025). المحطة الثالثة ارتبطت بأحداث 1979 الجسام، وكان قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تبنت نظام ولاية الفقيه، ورفعت شعار تصدير الثورة، بطبيعة الحال أبرزها. محاولات إيران التمدّد إقليميّاً أجهضت بفعل الحرب مع العراق (1980- 1988)، لكن نتائج تلك الحرب مهّدت أيضاً لغزو الكويت (1990)، وهي المحطّة الرابعة المهمة في تاريخ المنطقة، إذ قوّضت كل تصوّرات الأمن القومي العربي، وفتحت الباب أمام تصفية القضية الفلسطينية، عبر مسارات سلام فاشلة، وأعطت تنظيم القاعدة ذريعةً لشن هجماته في سبتمبر/ أيلول 2001، ليأتي الرد الأميركي عليها بغزو أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003، وتلك هي المحطة الخامسة الكبرى في تاريخ المنطقة، نشأ على أثرها قوس نفوذ إيراني يمتد من غرب أفغانستان إلى شرق المتوسط.

لنحو عقدين تقريباً (2003-2023) سيطرت إيران فعلياً على المشرق العربي، وورثت الدورَ العربي في القضية الفلسطينية. استمرّ ذلك حتى عملية طوفان الأقصى (أكتوبر 2023)، التي أسهمت في إيجاد الظروف المساعدة لسقوط نظام الأسد في سورية، نوعاً من الأضرار الجانبية. يعد سقوط الأسد، أبرز محطّة في تاريخ المشرق العربي منذ الغزو الأميركي للعراق، وهو يُؤذن بتحوّلات كبرى فيه، بما في ذلك إنهاء أطول تحالف ثنائي عرفته منطقة الشرق الأوسط في آخر نصف قرن، وخسرت إيران، بسقوطه، أربعة عقود من العمل على مشروعها الذي أرادته مطلًا على المتوسّط، وأنفقت عليه في العقد الأخير فقط نحو ستين مليار دولار. ومع انهيار عقيدة "الدفاع المتقدّم" الإيرانية، صارت طهران أمام احتمالين: أن تذهبَ باتجاه الخيار النووي، أو التسليمَ بخسارتها، وانكفاءها من جديد نحو الداخل. في مقابل تراجع إيران، صعدت أدوار السعودية وتركيا. نظرياً، لم تعد السعوديةُ، مع انهيار المشروع الإيراني، بحاجة ماسّة لضمانات أمنية أميركية، أو مستعجلة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل طريقاً للحصول عليها، فالسعودية تبدو اليوم، بسقوط الأسد، في وضعية جيوسياسية مريحة، خاصة إذا تحوّل النظام الجديد في دمشق إلى حليف. مع سقوط نظام الأسد، وانحسار النفوذ الإيراني، تصبح تركيا أيضاً القوة الإقليمية الأبرز في المنطقة، هذا يعزّز مواقعها التفاوضية في العلاقة مع روسيا والغرب وإسرائيل والعرب، وإذا تمكّنت من ترسيم حدودها البحرية مع سورية، فسوف تعيد تشكيل كل تحالفات المنطقة وموازين القوى فيها. سوف يتأثر بالتأكيد، هنا، التحالف القبرصي المصري اليوناني، ويصبح مستقبل "منتدى غاز شرق المتوسط" محلّ تساؤل. يرجّح أيضاً أن يُسهم سقوط الأسد في إعادة رسم خريطة نقل الطاقة، والمعابر الاقتصادية في المنطقة بعد إغلاق الطريق أمام مشروع "خط الصداقة" لنقل الغاز الإيراني عبر العراق إلى سورية، وفتح الطريق بين تركيا والخليج. قد تجري إعادة النظر، أيضاً، في مشروع "طريق التنمية" بين الخليج وتركيا عبر العراق، والذي يواجه تعقيدات، أصلاً، بسبب عدم حماسة إيران وحلفائها العراقيين له. والمعبر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي قد يتعرّض أيضاً لإعادة تقييم. بسقوط نظام الأسد، انتهى دور حزب الله إقليمياً، وضعف لبنانياً، بعد أن فقد الحزب طريق إمداده الرئيس عبر سورية، وقد بدا هذا واضحاً في انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة نواف سلام في لبنان. سقوط النظام السوري سوف يكون له تداعيات كبرى على الموقف الروسي في شرق المتوسّط، سواء في مواجهة تركيا أو "الناتو" أو وضعها كقوة مؤثرة في النظام الدولي، بما في ذلك في أفريقيا. القصة السورية لم تنته بعد، فصولها ما زالت تكتب، ويرجّح أن يكون لها تداعيات أبعد كثيراً مما خرجت به كل القراءات.