كيف تقرأ إسرائيل التطوّرات في سورية؟

14 مارس 2025

دبابات إسرائيلية في منطقة الحمادية في سورية قرب الجولان في القنيطرة (16/1/2025 الأناضول)

+ الخط -

يمثل النظام السوري الجديد مصدر قلق كبير لإسرائيل، فلطالما خشيت من تحرّر الشعوب العربية، ومن ثمّ أكثر ما يقلقها ليس الأيديولوجيا الإسلامية للقيادة السورية الجديدة فحسب، بل أن تنجح هذه القيادة في توحيد الشعب السوري بأطيافه كافّة، وأن تتمكّن من استيعاب جميع مكوّناته في مؤسّسات الدولة، ومن ثمّ يصبح بإمكانها التفرّغ لبناء دولة قوية. وعلى الرغم من حديث كتّاب إسرائيليين كثيرين عن مصلحة إسرائيل في وجود دولة سورية موحّدة ومستقرّة، مثلما كتب نائب مستشار الأمن القومي السابق في إسرائيل تشاك فريليش، فهذا يجب فهمه في إطار معايير إسرائيلية محدّدة لا تشكّل فيها سورية "المعتدلة" أيّ تهديد لدولة الاحتلال، وأن تكون مناطق الجنوب في القنيطرة، ودرعا، والسويداء "منزوعة السلاح بشكل كامل"، حسب قول نتنياهو.

ما كتبه فريليش لا يعبر في الحقيقة عن التوجّهات الفعلية للسياسة الإسرائيلية، ولا عمّا تقدّمه مراكز الأبحاث من تصوّرات تتناقض حتى مع الفكرة التي طرحها عن "الدولة الموحدة المعتدلة". وكان معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي قد قدّم دراسةً في يناير/ كانون الثاني الماضي (2025)، تقترح ترويج دولةٍ سوريةٍ مقسّمةٍ على أساس عرقي أو طائفي بين مناطق نفوذ أربع، بدعوى حماية الأقلّيات، فتكون مناطق نفوذ الولايات المتحدة في شمال شرقي سورية لحماية الأكراد، وتكون مناطق الساحل السوري تحت نفوذ روسيا لحماية العلويين، وتتولّى إسرائيل حماية الدروز في الجنوب. أمّا السُنّة فتبقى لهم مناطق الوسط وصولاً إلى الحدود مع تركيا، وهذه، وفق الدراسة، يمكن أن تكون مناطق نفوذ تركي. وهذا التصوّر النظري استبقته الحكومة الإسرائيلية بإجراءاتٍ فعليةٍ في الجنوب السوري، وبتصريحاتٍ أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير حربه يسرائيل كاتس، تؤكّد عزم إسرائيل على الدفاع عن الدروز في سورية، بل ومنحهم امتيازاتٍ تسمح لهم بالعمل في الجولان المحتلّ، حسب تصريح وزير الحرب الإسرائيلي، أو تخصيص أكثر من مليار دولار لدعم الدروز في هضبة الجولان، لإغراء الدروز في سورية. وبالتالي، هي تسعى إلى عزل الدروز عن الدولة السورية بزعم حمايتهم، وبهذا تكون إسرائيل قد نفّذت الجزء العملي الخاصّ بها في هذا المخطط.

تحاول إسرائيل ترويج صورة تربط الإدارة السورية الحالية بالإرهاب

ولكنّ أحداث الأيّام الماضية، بدايةً من تمكّن الدولة من فرض سيطرتها على الساحل السوري، بعد محاولة تمرّد قامت بها فلول نظام الأسد كانت على الأغلب برعاية دول أجنبية، لا يُستبعد أن تكون إسرائيل واحدةً منها، مروراً بتوصل الإدارة السورية إلى اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وصفته الصحافة العبرية بالدراماتيكي، يقضي بدمج المؤسّسات كافّة، المدنية والعسكرية، في شمال شرقي سورية ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، وتطبيق الاتفاق في فترة لا تتجاوز نهاية العام الحالي، وصولاً إلى احتمال التوصّل إلى اتفاق آخر بين الدولة ورؤساء العشائر الدرزية في محافظة السويداء في الجنوب... هذا كلّه، يعني أن سورية تسير بخطىً ثابتةٍ نحو توحيد البلاد تحت إدارة واحدة، وهو ما يدلّ على أن سيناريو التقسيم، وإضعاف النظام السوري، الذي تريده إسرائيل، لا يسير على النحو المطلوب. وعلى الرغم من أن الاتفاق أخيراً بين الدولة السورية والأكراد قد يحقّق مصلحةً جزئيةً لإسرائيل، على اعتبار أن وجود جهة علمانية موالية للولايات المتحدة ضمن الدولة السورية يخدم مصلحتها، فضلاً عن أن استيعاب الأكراد قد يؤدّي إلى تقليص محدود للنفوذ التركي، فإن تقوية النظام السوري، من ناحية أخرى، واحتمال إضعاف تعاون إسرائيل مع الأكراد نتيجة إدماجهم في مؤسّسات الدولة، علاوة على ما يوفّره ذلك من فرصةٍ لتفرّغ النظام لتقوية الدولة، هي أمورٌ لا تخدم مصالح إسرائيل، التي ترغب في أن يظلّ النظام السوري محاطاً بالمشكلات التي تعوق بناء دولة قوية قدّ تهدّد إسرائيل مستقبلاً.

وهكذا، انعكست هذه التطورات، التي جاءت على غير هوى الإسرائيليين، في ارتفاع نبرة الشعور بالخطر ممّا يحدث في سورية، وباتت إسرائيل أكثر تعبيراً عن شعورها بالخطر من الإدارة السورية بسبب أيديولوجيتها الإسلامية، وهي تحاول ترويج صورة تربط الإدارة السورية الحالية بالإرهاب. في هذا السياق، يمكن فهم تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، وخصوصاً بعد أحداث الساحل السوري في الأيّام الماضية، وما ارتكبته بعض القوات السورية من انتهاكات وعد الشرع بالتحقيق فيها، فقد صرّح وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأن "الجولاني خلع الجلباب، ولبس الحُلّة ليقدّم نفسه شخصيةً معتدلةً، لكنّه الآن خلع القناع وأظهر وجهه الحقيقي، إرهابي جهادي ينتمي إلى مدرسة القاعدة". أمّا وزير الخارجية جدعون ساعر، فحذر قادة العالم من النظام السوري، وحثّهم على عدم الثقة فيه، وعدم منحه الشرعية المجّانية، لأنّ ما يصدر من هذا النظام "الجهادي" شرٌّ محض. وهي تصريحات يجب وضعها في سياق رسم صورة نمطية للنظام السوري، وتقديمها للغرب لتكون مبرّراً "أخلاقياً" للانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل في سورية.

تحتفظ إسرائيل بأوراق تزيد المشهد تعقيداً على الآخرين، ما لم تتسارع خطوات بناء دولة قوية في سورية

ويجب أن نضع بالاعتبار أن هذه الإنجازات التي حقّقها النظام السوري (وتُعدّ بدرجة أو بأخرى فشلاً لإسرائيل)، لا تعني بالطبع فشل التصوّر الإسرائيلي كلّه، فإسرائيل ما زالت تعزّز وجودها العسكري في الجنوب السوري، وتقصف أهدافاً في العمق السوري بين وقت وآخر، بل وتصرّح بأنها لن تغادر المناطق التي احتلّتها في الجنوب بعد سقوط نظام الأسد، بدعوى حماية أمنها القومي، كما أن التصريحات الرسمية لقادة الدولة الصهيونية، وفي مقدّمتهم نتنياهو ووزير حربه، تؤكّد أنها "لن تسمح" أن تشكّل سورية تهديداً لها. وبالتالي، فإن إسرائيل ما زالت لديها أوراق للتأثير في المشهد السوري، قد تصل إلى ما وراء استمرار احتلالها للمناطق الجديدة في جنوبي سورية. وهذا الأمر الأخير منوط بمسألتَين؛ أولاهما أن تحقّق سورية نجاحاتٍ كبيرةً سريعةً في بناء الدولة وتوحيدها، وبناء قوتها العسكرية، وهي نجاحات إن تحقّقت، فسوف تنظر إليها إسرائيل تهديداً يتطلّب التدخّل العاجل. أمّا المسألة الأخرى فترتبط بمدى قدرة تركيا على المسارعة بالمساعدة في بناء الجيش السوري وتحديثه، بحيث تجد إسرائيل نفسها مكتوفةَ الأيدي أمام حرّية التحرّك في سورية، من أجل تجنّب الصدام مع الأتراك.

وعلى هذا الأساس، لا تقتصر المعضلات الإسرائيلية في سورية على فشل التمرّد في الساحل السوري، أو توقيع الاتفاق مع الأكراد، وقادة العشائر الدرزية في السويداء، بل تمتدّ إلى تخوّفات من أيّ تزايد لتأثير تركي في سورية؛ عبر تعاون عسكري، أو مساهمة في بناء الجيش السوري، وإمداده بمعدّات عسكرية حديثة، وما يرتبط بذلك كلّه من وجود مستشارين عسكريين أتراك، يمثّل تحدّياً لإسرائيل، لأنه قد يحد من حرّية حركتها في سورية، وربّما احتمال وضع تركيا في موقف الخصم، وهو وضع تتحاشاه إسرائيل، حسب الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي كارميت فالنس. وفي هذا السياق، على إسرائيل أن تتجنّب الدعم العلني للمنظّمات التي تعتبرها تركيا تهديداً لها، حتى لا تقوم تركيا بالمثل في مرتفعات الجولان. لكنّ هذه المحاذير لا تمنع بالضرورة أن تشكّل تركيا تهديداً محتملاً لإسرائيل يتطلّب المراقبة والاستعداد، حسب مدير المعهد تامير هيمان، الذي يرى أيضاً ضرورة أن تعمل إسرائيل على تقليص فرص قيام نظام إسلامي "متطرّف" في سورية. وهو مفهوم يرتبط، حسب تعبيره، بأن يختار النظام السوري الانضمام إلى ما أطلق عليه "معسكر الإسلام السياسي"، الذي يضمّ الإخوان المسلمين وتركيا وقطر، وأن يتّخذ مواقفَ معاديةً معلنةً تجاه الغرب، ما قد يؤدّي إلى إضعاف بعض حلفاء إسرائيل في المنطقة.

وهكذا تزيد التطوّرات السورية أخيراً تعقيدات المشهد بالنسبة لإسرائيل؛ بعد فشل تصوّراتها (حتى اللحظة) حول التقسيم العرقي أو الطائفي في سورية، لكنّها مع ذلك تحتفظ بأوراق يمكنها زيادة المشهد تعقيداً على الآخرين، ما لم يسارع المعنيون بوجود دولة سورية قوية الخطى لإنجاح التجربة هناك.

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.