كيف تغيّر العالم منذ عاد ترامب؟
السؤال الأكثر إلحاحاً في العالم اليوم إن كان النظام أحادي القطبية الذي فرضته الولايات المتحدة، عقب حسمها الحربَ الباردةَ قبل نيّف وثلاثين سنة، قد انتهى لصالح نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، أم إن ذلك لم يحدث بعد؟... ربّما تُقدِّم ردّة الفعل الدولية على الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب، منذ أوائل إبريل/ نيسان الفائت، ثمّ علقتها مؤقّتاً على مراحل، إجابةً مفيدةً عن هذا السؤال، فالعالم أبدى فزعاً من فرض تلك الرسوم، حتى إن كانت معظم الدول (باستثناء الصين) حاولت أن تدعو بلغة تصالحية إلى وقف التصعيد والتحذير من المخاطر المترتّبة على الخطوة الأميركية، ثمّ تنخرط في مفاوضات للوصول إلى تفاهمات حولها مع واشنطن.
هكذا فعلت معظم الدول المصدّرة إلى الولايات المتحدة، التي بدا أن تلك الرسوم الجمركية تهدّد صناعاتها وتجارتها الدولية، وقدرتها على التصدير إلى السوق الأميركية، خصوصاً حلفاء واشنطن التقليديين، مثل كندا وبريطانيا وإيطاليا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وعديد من دول الاتحاد الأوروبي، وهذا لا يعني الانفضاض عن الولايات المتحدة أو السعي إلى الخروج من فلك قيادتها العالمية، احتجاجاً على ذلك الإجراء، الذي أخذ شكلاً عقابياً تجاه العالم بما فيه الحلفاء، بل على العكس، يدلّل على تسليم العالم بالقيادة الأميركية وحاجته إلى استمرارها نتيجة الأهمية المركزية للولايات المتحدة في المجال التجاري، كذلك المجالات العسكرية والسياسية، التي لا جدال فيها.
أمّا الصين فقد أبدت غضباً تجاه الرسوم الجمركية الأميركية، وردّت بفرض رسوم مكافئة، قبل أن يقرّر الطرفان الجلوس إلى مائدة المفاوضات. ترافق الغضب الصيني مع لغة مختلفة عن التي استعملها العالم تجاه واشنطن، إذ تحدثت بكّين عن البحث عن أسواق عالمية جديدة، والسعي للاعتماد على السوق المحلّية وتعزيز الاستهلاك الداخلي، ما يعني قدرتها على الاستغناء عن السوق الأميركية. لكن ما هو أقرب إلى الحقيقة أن ردّ الصين نبع من فهمها سلوك ترامب السياسي القائم على رفع سقف المطالب والتهديدات قبل الجلوس إلى مائدة المفاوضات، ما يعني أنها اتّبعت أسلوب ترامب نفسه، ورفعت سقف مطالبها وتهديداتها بغرض التفاوض لاحقاً. في الجوهر إذاً، لا يختلف الغضب الصيني في معناه عن التوجّهات التصالحية التي اتبعتها دول أخرى، فهو يعكس حاجة الصين إلى السوق الأميركية من أجل استكمال خططها التنموية، وتنفيذ برامجها الاقتصادية المستقبلية، جرياً على كلّ ما فعلته في التجارة الخارجية، مذ تحوّلت إلى الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم، منذ أكثر من أربعة عقود.
حديث الصين عن إيجاد بدائل محلّية وعالمية للسوق الأميركية، تبيع فيها بضائعها ومنتجاتها ليس حقيقياً
الحال أن حديث الصين عن إيجاد بدائل محلّية وعالمية للسوق الأميركية، تبيع فيها بضائعها ومنتجاتها ليس حقيقياً، بل يعكس هو الآخر فزعاً من خسارة السوق الأميركية، التي تصدّر إليها الصين نحو 40% من صادراتها. وهذا معناه أن الصين هي الأخرى تسلّم بقيادة الولايات المتحدة العالم من الناحية التجارية، ومنها إلى النواحي السياسية والاقتصادية، ولا يمكن القول إن الصين تنافس هيمنة الولايات المتحدة العسكرية على العالم، أو إنها تفكّر بمواجهتها، أو تعتقد أنها قادرة على ذلك.
نتيجة ذلك، يبدو العالم معترفاً باستمرار النظام العالمي أحادي القطبية، وإن كان يُكثر الكلام عن تحويله نظاماً متعدّد الأقطاب، بما فيه الصين وروسيا، اللتان يبدو كلامهما عن تغيير النظام العالمي متعلّقاً بمستقبل غير قريب يسعون إليه أو يهدّدون بصنعه.
كيف (إذاً) تغيّر العالم منذ عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ما دام مستمرّاً في التسليم بهيمنة الولايات المتحدة وقطبيتها الأحادية؟... ما يمكن استنتاجه أن العالم تغيّر شكلاً، لكنّه لم يتغيّر من حيث الجوهر. ففي الجوهر ما يزال النظام العالمي أحادي القطبية قائماً، وما تزال الولايات المتحدة مهيمنةً على التجارة العالمية ومعاييرها، وعلى الاقتصاد العالمي، وعلى السياسة الدولية ومؤسّساتها، وفي ساحات العالم العسكرية برّاً وبحراً وجوّاً وفضاءً، في وقتٍ يدرك فيه منافسو الولايات المتحدة أن الحديث عن التكافؤ مع قدرات واشنطن ما يزال مبكّراً، وأن أيَّ مجابهة حقيقية معها، خصوصاً على الصعيد العسكري، ستكون نتائجها كارثيةً ومدمّرةً، كذلك في مجال السياسة العالمية، إذ تتردّد الصين كثيراً، وتتلكّأ في اتخاذ مواقف رئيسة تُغضِب واشنطن، بما يشي أنها لا ترى في نفسها قوّةً سياسيةً قادرةً على أن تكون قطباً بديلاً يجتمع حوله العالم.
ما يزال النظام العالمي في الجوهر أحادي القطبية، وما تزال الولايات المتحدة دولةً مهيمنةً
من حيث الشكل، ما تغيّر طريقة واشنطن في إدارة قطبيتها الأحادية هذه. تريد واشنطن اليوم نموذجاً مختلفاً تمارس من خلاله قطبيتها، قوامه مشاركة القوى الصاعدة التي استفادت من الولايات المتحدة خلال العقود الماضية في تحمّل التبعات المالية لإدارة المؤسّسات الدولية، وكذلك التوقّف عن إلقاء الأعباء على الاقتصاد الأميركي، كما لو كان شرطاً لاستمرار التفاهمات المتعلّقة بالنظام العالمي القائم، من دون أن يأخذ ذلك من مكانة واشنطن وقيادتها العالمية، وهنا تكمن الشعرة التي تفصل بين أوهام الاعتقاد بأنّ إعادة واشنطن توزيع التبعات العالمية يعني أنها تشرك دولاً أخرى في القيادة، وحقيقة أنها تواصل القيادة وفق شروط جديدة تكرّس نفوذها وسطوتها. الحقيقة أن قدرة الولايات المتحدة على التحكّم في تفاصيل المشهد العالمي بهذه الطريقة، وفرض قواعد جديدة عليه وقتما تشاء، إنما تعكس استمرار قوتها وسطوتها، لا تراجعهما، ومؤكّد أن الدول تدرك ذلك، بمن فيها الصين، التي تُحسن التصرّف تجاه هذا الحال بعقلانية، ومن دون تهوّر.
وهذا يعني أن ما يفعله ترامب ليس انسحاباً من قيادة العالم، بل فرضاً لشروط جديدة في ظلّ مواصلة القيادة نفسها. لسان حال ترامب: نعم نحن قادة العالم، لكن ذلك لا يعني أن تواصلوا استغلال اقتصادنا. وهذا ما تغيّر في عهده فقط، سواء كان على حقّ فيما يقول، كما يعتقد، أو لم يكن، كما يعتقد العالم.