كيف استعدّت الصين لما بعد العولمة؟

25 ابريل 2025
+ الخط -

تبدو الحرب التجارية المتسارعة بين الولايات المتحدة والصين تدشيناً لمرحلة جديدة من تاريخ العالم السياسي تنتهي معها فترة النظام العالمي أحادي القطبية الذي أقامته واشنطن وحلفاؤها عقب الحرب الباردة، حتى لتبدو "العولمة" مجرّد مرحلة فاصلة بين زمنين امتدت نحو ثلاثة عقود ونصف العقد لا أكثر، ولم تكن نهاية للتاريخ أبداً.

مؤكّدٌ اليوم أن الصين كانت تستعد لهذه المرحلة الجديدة طوال العقود الفائتة التي بدت فيها كما لو أنها جزء من النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، ليس عقب انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكّك الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات وحسب، بل منذ تقاربت بكين مع واشنطن في مطلع سبعينيات القرن العشرين مع زيارة الرئيس الأميركي نيكسون الزعيم الصيني ماو عام 1972. فكيف فعلت الصين ذلك؟

يمكن تقسيم سلوك الصين إزاء حضورها الدولي إلى مرحلتين، يفصل بينهما إعلان مبادرة الحزام والطريق الصينية في عام 2013. فقبل ذلك العام، ركزت الصين على إنجاز التنمية الداخلية ورفع نسب نمو اقتصادها بشكل مضطرد حتى فاق في بعض السنوات نسبة 10%. فعلت الصين ذلك من خلال ثنائية جذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة تجارتها الخارجية حتى باتت قبل نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة ثاني أكبر اقتصاد وأكثر الدول تصنيعاً وتصديراً. في المقابل، تجنّبت الصين الانخراط في السياسة الدولية بشكل مباشر، وبدا أنها دولة محايدة لا تتحدّث إلا في العموميات والمسلمات، كالحث على السلام العالمي وعدم التدخل في شؤون الآخرين.

أدركت الصين أن عليها استعمال نجاحاتها الاقتصادية للتحول إلى دولة مؤثرة على الساحة الدولية تفرض نظاماً دولياً جديداً بعدما بدا أن النظام العالمي أحادي القطبية استنفد أغراضه

وهكذا أطلقت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، وكانت تعني التحوّل من الأيديولوجيا الماركسية إلى البراغماتية الوطنية التي تخلط الرأسمالية بالاشتراكية، أو بالأصح تمارس الرأسمالية بغطاء اشتراكي، وهو ما سمّته في 1992 "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"؛ أي بالتزامن مع انطلاق نظام ما بعد الحرب الباردة، ما جعل الصين تستفيد من حرية التجارة وفتح الأسواق العالمية التي أتاحتها سنوات العولمة، فكان مؤدّى هذه السياسة الصينية التركيز على البيت الداخلي وتمتين قواعد قوة الدولة عبر بنائها اقتصادياً وصناعياً وعسكرياً على نحو براغماتي، من دون كثير التفاتٍ إلى السياسة الدولية، رغم أن الصين دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، لغرضين: تجنيب البلاد ما يعكّر صفو علاقاتها التجارية مع الغرب التي أثرَت منها البلاد كثيراً، وتكريس جهود الدولة في الملفات الداخلية التنموية دون سواها.

بعدما أنجزت الصين نجاحاتها الداخلية، وراكمت نموها الاقتصادي وثروتها الوطنية، التفتت اعتباراً من عام 2013 إلى ما هو خارج الحدود، متحدّثة عن تعميم النجاح والازدهار على البشرية كلها، وعن مبادرتها لقيادة ما تسميها دول "الجنوب النامي" نحو التنمية، كما غيّرت أسلوبها التجاري من التركيز على الكمّ إلى الاهتمام بالنوع، متغاضيةً عن تراجع نسب نمو اقتصادها نتيجة ذلك. لقد بدت الصين مهتمة بصورتها أمام العالم هذه المرّة على عكس ما كان يجري خلال العقود السابقة. كان ذلك بمثابة الإعلان عن صين جديدة تخرج إلى العالم عقب عقود من الانكفاء داخل الحدود. لقد أدركت الصين أن عليها استعمال نجاحاتها الاقتصادية للتحول إلى دولة مؤثرة على الساحة الدولية تفرض نظاماً دولياً جديداً بعدما بدا أن النظام العالمي أحادي القطبية استنفد أغراضه، وأنه لن يتيح لها أكثر مما فعل في العقدين السابقين، وأنها إن لم تفعل ذلك بنفسها فإن حركة التاريخ ستترك لدول أخرى أن تفرض نظاماً دولياً بديلاً.

استعداد بكين لعالم ما بعد العولمة نبع، على الأغلب، من فهمها حركة التاريخ

والخلاصة أن الصين استعدّت لمرحلة ما بعد العولمة بطريقتين: الأولى إنجاز نهضة البلاد ومتانتها الاقتصادية والتنموية حتى 2012، والثانية بناء علاقات سياسية مع العالم على أساس التعاون الاقتصادي اعتباراً من 2013 بحيث تكون علاقاتها ومشروعاتها مع العالم بديلاً لنظام العولمة حال انهياره. لكن لماذا كانت الصين تدرك أنها محتاجة للاستعداد لمرحلة جديدة، وأن مرحلة العولمة سنتنهي حتماً؟

كانت فكرة بروز الصين قطباً عالمياً جديداً رائجة في العالم حتى خلال سنوات علاقتها الحميمة مع الولايات المتحدة (1978 – 2012). ربما كانت تلك الفكرة مستمدّة من ثقافة الحرب الباردة التي يتصارع فيها قطبان، شرقي وغربي، وربما لإدراك العالم أن "الجمر تحت الرماد" في علاقة واشنطن ببكين، لأن الأولى لن تسمح للثانية بالتضخّم أكثر مما يجب والخروج عن التسليم لها بالقيادة الدولية، خصوصاً أن البلدين لم يكونا على وفاقٍ سياسيٍّ خلال العقود التي سبقت تقاربهما في مطلع السبعينيات، نظراً إلى أن الصين دولة شيوعية، ما جعل انحيازاتهما السياسية متعارضة على مدار الخمسينيات والستينيات. وحتى حين تقاربت واشنطن من بكين، ظلّ الحذر الأميركي بيّناً من خلال مواصلة دعم وجود دولة مستقلة في تايوان لتستعملها ورقة ضغط وتهديد على الصين كلما أرادت، ثم بدا أن الولايات المتحدة دعمت تحرّكات ومظاهرات ميدان تيان آن مين في 1989 التي هدّدت استمرار نظام الحزب الشيوعي وجمهورية الصين الشعبية، فضلاً عن مواصلة الخطاب الإعلامي الغربي تقديم صورة سلبية عن الصين. وهكذا، فإن استعداد بكين لعالم ما بعد العولمة نبع، على الأغلب، من فهمها حركة التاريخ، لأنها إن لم تبادر إلى الفعل سيكون مفروضاً عليها لاحقاً الاكتفاء بممارسة رد الفعل، بما ينطوي عليه من مخاطر تجاه مصالحها الوطنية ومنجزاتها التنموية. ربما بشكلٍ أقلّ يمكن القول إن الصين كانت تخطّط منذ البداية لإتباع نجاحها التنموي بتغيير النظام الدولي والتحوّل إلى قطب عالمي، انطلاقاً من طبيعتها دولة كبرى تمثل أمةً ذات عمق تاريخي، ما يجعل توسيع حضورها وتأثيرها في العالم حاجة أصيلة فيها متى أتاح لها التاريخ ذلك.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.