كيف أدرك قيس سعيّد عتبة "الجمهورية الجديدة"؟

كيف أدرك قيس سعيّد عتبة "الجمهورية الجديدة"؟

23 مايو 2022
+ الخط -

أحكم الرئيس التونسي، قيس سعيّد، قبضته على الحياة السياسية في بلاده، منذ أكثر من نصف سنة، وها هو يعلن يوم الجمعة الماضي بعث "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، وعيّن رئيساً لها، أستاذ القانون الدستوري المتقاعد، الصادق بلعيد، الذي لا يذكُره التونسيون إلا وقد ربطوا اسمَه بالفشل الذريع، حين تولى نيابةً عن الدولة التونسية إدارة ملف الجرف القاري، في أثناء النزاع عليه مع ليبيا في محكمة لاهاي الدولية التي أصدرت حكمها في 24 فبراير/ شباط 1982، لتخرج تونس بخفّي حنين، وهي التي رفضت مقترحاً ليبيا ينصّ على الاستغلال المشترك لهذه المنطقة البحرية الثرية بالنفط.
لم يكن الأمر مفاجئاً. استولى الرئيس سعيّد، بحكم الأمر الرئاسي عدد 117 الصادر في 22 سبتمبر/ أيلول 2021، والمتعلق بالتدابير الاستثنائية، على جميع السلطات تقريباً، التنفيذية والتشريعية والقضائية، حتى عدّ بعضهم ذلك الأمر دستوراً مؤقتاً، وهو الذي بموجبه منح سعيّد لنفسه صلاحيات واسعة، تجيز له التدخل في جميع مرافق الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد وغيرها من دون رقيب أو حسيب، وبعد أن تخلص من السلطة التشريعية (البرلمان). امتدّت يد الرئيس إلى جميع المؤسّسات التي بنتها الدولة قبل الثورة وبعدها. باشر في تفكيك مؤسّسات الانتقال الديمقراطي، واحدة تلوى الأخرى، خصوصاً التي استشعر أنها ستحدّ من صلاحياته، وكان البرلمان أولى ضحاياه، حين حله ليلة الانقلاب، وأضاف، في الليلة نفسها، حلّ الحكومة التي كانت أحد توافقات الكتل البرلمانية حسب دستور 2014، وهو الذي لم يسلم منه لاحقاً، إذ عمد إلى تقطيعه رويداً رويداً، محتفظاً منه ببعض الأبواب، وملغياً أخرى.

انقلاب خلاسي وشكل من انقلاب عسكري من دون أن نرى عسكرياً واحداً يلقي بياناً أو يقول جملة سياسية

لم يكن ذلك سوى تدرّج في بيداغوجيا الانقلاب في البلاد التي "أبهرت العالم" بثورتها، كما أشاد بها الرئيس الأميركي الأسبق، أوباما، ثم أبهرت العالم أيضاً بانقلابها، فنحن فعلاً أمام انقلاب خلاسي، فهو شكل من الانقلاب على الدستور من دون إلغاء صريح له، وهو أيضاً شكلٌ من انقلاب عسكري من دون أن نرى عسكرياً واحداً يلقي بياناً أو يقول جملةً سياسية، وهو شكلٌ من انقلابٍ تستطيع أن نسمّيه هكذا، من دون أن تدفع ثمن ذلك اعتقالاً أو ملاحقة، ولو إلى حين. ويواصل سعيّد وزحفه على جميع السلطات التي يمكن أن تحدّ من نهمه السلطوي: كانت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أولى ضحاياه، فقد أُغلِقَت مقارّها وأُوقِف رئيسها المحامي والعميد السابق، شوقي الطبيب، الذي وُضع تحت قيد الإقامة الجبرية بشكل تعسفي. ثم تلا ذلك حل المجلس الأعلى للقضاء، ثم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إلخ، ولا تزال الجرّافة تسحق ما تجده على طريقها.
ومع ذلك، ستظل هيئات وهياكل خارج سيطرته، خصوصاً التي لا يمكنه قانوناً تعيين مسيّريها، ولذلك ظل الرئيس باحثاً عن حلٍّ يمكن أن يطلق يديه فيها حتى لا تفلت من نفوذه. فكّر ودبّر فوجد الحل، استنساخ الانقلاب، وتعميم وصفته وتفجيرها من الداخل، كما يحلو له ترديد ذلك، خصوصاً أنها جُرِّبَت مع هيئات وهياكل بشكل ناعم. يبدأ الأمر باستدعاء الرئيس الرقم الثاني فيها، نائب الرئيس أو أمين سرّها. وهنا تبدو الرسالة واضحة، يريد رئيس الجمهورية تطهير المنظمة من الفاسدين، وهو لا يرضى التعامل مع مسؤولها الأول. بدا أن "انقلاباً داخلياً ثانياً" يجري حالياً في اتحاد الفلاحين، ولم يُخفِ "الفلاح المنقلب" في تصريحات عديدةٍ لوسائل الإعلام أن الرئيس سعيّد طلب منه ذلك. وحين استدعى سعيّد نائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، كانت الرسالة واضحة، أن عهد رئيسها السابق الشرعي نبيل بفون قد طُوي، لأنه عبّر عن موقفٍ مناهض للانقلاب، داعياً إلى احترام الدستور. كان في وسع الرجل أن يعبّر عن ولائه، ويبدى طاعته للرئيس، حتى يظلّ إلى ما لا نهاية في منصبه ذاك، غير أنه لم يفعل احتراماً لذاته، وللقوانين التي منحته تلك المكانة.

لا يكترث سعيّد بحجم التحفظ والرفض الذي يلقاه مساره. الانقلاب باقٍ ويتمدّد، وسيكون لغلق قوسيه آجلاً أو عاجلاً تكلفة باهظة

كانت المهمة واضحة أمام الرئيس، حتى يتيسر إحكام انقلابه: تفكيك المنظمات الوطنية التي يمنحها القانون استقلالاً ما عن جميع السلطات، خصوصاً أنها منظماتٌ نشأت حتى قبل دولة الاستقلال. وكانت هذه المنظمات، منذ إعلان الانقلاب متردّدة أو متحفظة، فإذا كان الاتحاد العام التونسي للشغل قد ساند "إجراءات 25 جويلية"، فإنه ظل يشتبك مع الرئيس من حين إلى آخر، واتهمه برفض "التشاركية"، وبالاستفراد برسم مستقبل البلاد بشكل أحادي. أما الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، فقد كالت بمكيالين في قضايا الانتهاكات التي طاولت نواب البرلمان المنحلّ، وغضّت الطرف عن أشكال التضييق، وحتى السجن، التي طاولت إعلاميين ومدوّنين، وذلك لأسباب أيديولوجية تحديداً. ووقعت الرابطة تحت سيطرة تيار يسراوي، يعتقد أنه حان الأوان لتصفية خصمه التاريخي، الإسلاميين ومن اقترب منهم، وذلك ما دفع ثلة من الحقوقيين البارزين والمستقلين إلى إعلان تأسيس الهيئة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية. غير أن عمادة المحامين، وهي الشريك الثالث للمنظمتين السابقتين في تنظيم الحوار الوطني سنة 2014، اصطفت مع الانقلاب قلباً وقالباً في شخص عميدها إبراهيم بودربالة، وذلك ما أحدث تملماً في أوساط المحامين الذين ينتظرون الانتخابات التي ستجري خلال أسابيع، من أجل حسم الأمر ديموقراطياً. أما اتحاد الأعراف، وهو الشريك النهائي والرابع لما سبق ذكره من منظمات وطنية، فقد ناله من الانقلاب الكثير من التهديد والوعيد، وقد سلط عليهم سيف المحاسبة بتهم عديدة، علاوة على الشتيمة التي لاحقتهم منه، فهم "فاسدون" و"مضاربون"، إلخ.
بسط الرئيس يده على هذه المنظمات الوطنية، التي لن تشارك في "الحوار الوطني"، ولن تنخرط في مسار تأسيس "الجمهورية الجديدة" التي لا يعرف الرئيس رقمها. فطوراً يقول: "الجمهورية الثانية"، وطوراً آخر يسمّيها "الجمهورية الثالثة". ويبدو أنه سيذهب منفرداً لرسم جمهورية شعبه المختار، وهو لا يكترث بحجم التحفظ والرفض الذي يلقاه مساره. الانقلاب باقٍ ويتمدّد، وسيكون لغلق قوسيه آجلاً أو عاجلاً تكلفة باهظة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.