كولونيالية ترامب العقارية
نعلم أنّ مصطلح "الكولونيالية العقارية" الوارد في العنوان تعوزه الدقّة، وقد يجادل أهل الاقتصاد والسياسة في أمره، فيقول قائلهم: لا يوجد مثل هذا النوع من الكولونيالية في مفهومها الكلاسيكي، وإنّها (الكولونيالية) أوسع من ذلك وأشمل. ورغم وجاهة هذا كله وجدناها وصفاً مناسباً للدعوة الشريرة، المتهوّرة، لدونالد ترامب بتملّك أميركا غزّة وتحويلها منطقة سياحية على البحر الأبيض المتوسّط.
كتبتُ في مقالٍ سابق أنّ ترامب رجل أعمال أكثر من كونه سياسياً، ولكن بتحديد نوع رأس المال الذي يستثمر فيه، أي في مجال العقارات، يمكن اليوم القول إنّ دعوته هذه تعبّر عن ذهنية مستثمر عقاري محكوم بذهنية تعظيم استثماراته، لا بذهنية رجل يقود الدولة الأعظم في العالم، كما تحرص على وصف نفسها والتباهي به، ونتفق مع القائلين بأنّ نهج ترامب في السنوات الأربع المقبلة، مدّة ولايته الثانية، إذا استمرّ على ما هو عليه، قد يُعجل بتدهور القوّة الأميركية إلى مراتب أدنى، وربما قاد هذا النهج العالم كله إلى كوارث غير مسبوقة.
وصف بعض أدعياء التحليل السياسي دعوة ترامب إلى تهجير سكّان قطاع غزّة، المدمّر بفعل العدوان الصهيوني الذي استمرّ نحو سنة ونصف سنة، بأنّها "تفكير خارج الصندوق"، للتغلب على الوضع المأساوي في غزّة اليوم، فيما الدلائل تشير إلى أنّ مثل هذا التفكير المتهور ليس ابن الساعة، بل سابقٌ، بسنوات، للسابع من أكتوبر وتداعياته، وسبق أن وصف جاريد كوشنر، زوج ابنة ترامب، إيفانكا، الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بأنه "نزاع عقاري"، وذلك في فترة ولاية ترامب الأولى. وبالنظر إلى أنّ كوشنر كان، يومذاك، مقرّباً من والد زوجته، فعلينا فهم أنّ لدعوة ترامب اليوم إلى تملك غزّة جذوراً، وعليها يصحّ وصف الباحث اللبناني فواز طرابلسي بأنّها "تخييل هوليوودي يمارسه مُضارب عقاري عنصري يتولى رئاسة الإمبراطورية الاميركية في العصر النيوليبرالي المتأخر، وصيغة منمطة من فكر وممارسة "رأسمالية الكوارث" التي ترى في دمار الحروب مناسباتٍ للاستحواذ على الأرض بأبخس الأسعار لممارسة المضاربات العقارية".
لم يفارق كرسي البيت الأبيض خيال ترامب طوال السنوات الأربع الماضية، حتى إنّه، قبل أن يعود رئيساً، طلب من نجّارٍ ماهر أن يصنع له مكتباً مشابهاً للمكتب البيضاوي وبالمواصفات نفسها، وضعه في مقر إقامته في فلوريدا، وما إن أسند ظهره، قبل أسابيع قليلة، إلى الكرسي الأصل في واشنطن، حتى أعاد، بجرّة قلم، قراراتٍ سبق له اتخاذ معظمها في ولايته الأولى: الانسحاب من كل المنظمات والاتفاقات الدولية ذات الصلة بالبعد الإنساني: اتفاقية المناخ، مجلس حقوق الإنسان الدولي، "أونروا"، منظمة الصحة العالمية، وتوّج ذلك بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، لا لشيء سوى أنّها أصدرت أمراً بالقبض على حليفه نتنياهو. وببعض التمعن في مغزى كل هذه القرارات، نراها تنطلق من ذهنية مستثمر عقاري يهمّه عدم صرف الأموال إلا في ما يعود عليه بالنفع المباشر، لا من ذهنية رجل السياسة المعني بصورة بلاده في الأوساط الدولية، خصوصاً تلك الأقرب إليها في طبيعة النظام السياسي – الاجتماعي، ونعني هنا خصوصاً أوروبا، وهي صورة لا يأبه لها ترامب، لكونه نسخة فجّة من النيوليبرالية التي تسيّدت المشهد الرأسمالي في العقود الماضية، مسببة كوارث كثيرة، والمؤكد أن الآتي من هذه الكوارث أعظم.
لا يمكن إغفال وجه التناقض البيّن بين شعار ترامب "أميركا أولاً" والنزعة الكولونيالية الجديدة التي بات يفصح عنها، حدّ التطاول على الحقائق الجغرافية، مثل تغيير اسم خليج المكسيك إلى "خليج أميركا"، ومطالبته بضمّ قناة بنما وغرينلاند، وتهديداته كندا. وفي سياق هذه الكولونيالية، تأتي دعوته إلى بسط السيطرة الأميركية على قطاع غزّة، وتهجير أهلها الذين يفوق عددهم المليونين نسمة. واللافت أن دعوته إلى استملاك غزّة لن تتطلّب أن تطأ الأرض قدم جندي أميركي، ما يعني تفاهمه مع اليمين العنصري الحاكم في إسرائيل بزعامة نتنياهو، على أن يتولى هذا اليمين استكمال حرب الإبادة الجماعية المستمرّة في غزّة، وتدمير ما تبقى من مستلزمات الحياة فيها، ليتسلمها ترامب، لكونها الغنيمة التي على إسرائيل أن تقدّمها إلى واشنطن مقابل الأموال والأسلحة الأميركية الفتّاكة التي قُدّمت إلى تل أبيب لترتكب كل ما ارتكبت من جرائم في غزّة وكامل فلسطين، فضلاً عن تأمين الغطاء السياسي لكل هذا الإجرام.