كورونا وهذا الاستخفاف أو الإنكار

كورونا وهذا الاستخفاف أو الإنكار

06 أكتوبر 2020
+ الخط -

لا يزال تهديد وباء كورونا ماثلًا في البلاد العربية، وقد تكون مُعرَّضة مثل غيرها إلى موجات أخرى، وَفْق التوقُّعات؛ بعد انتهاء الصيف، والاقتراب من الأجواء الباردة الأكثر مناسبة لنشاط الفيروس. وعلى الرغم من ذلك، ظلّت أوساطٌ شعبية، كلما سنحت لها الفرصة، وتحت وطأة عاداتٍ اجتماعية راسخة، تتجاهل الالتزام بالقيود الوقائية، وتنهمك في تجمُّعات، تجعلهم، (ثم الجميع)، أكثر تعرُّضًا للإصابة بالوباء، كما في الأعراس وبيوت العزاء، وما شاكل. يحدث هذا وسط تصوُّراتٍ غير محسومة، لدى الناس العاديِّين، عن مدى الخطورة، وعن مدى نجاعة أساليب الوقاية، كلُبْس الكِمامة، وطرائق العدوى، وهي الأمور التي لم تعدم اختلافاتٍ علمية طبيّة، سيما في بدايات انتشار الوباء.

بلغ إِعراض أفراد التيَّار  الديني الحريدي في دولة الاحتلال عن الالتزام بالتوصيات الصِّحية والإجراءات الوقائية حدَّ التحدّي والمعاكسة

وظاهرة الاستخفاف بالوباء، أو إنكاره، ليست ماركة عربية مسجَّلة، فقد تعالت أصواتٌ رافضةٌ للقيود الوقائية، في الولايات المتحدة، وفي بلدان أوروبية، كما ظهر في ألمانيا، مثلًا، من تظاهراتٍ لافتة لجموع من الناس؛ شكَّكت في جدوى تلك القيود الهادفة إلى الحدّ من انتشار الوباء، وعبّرت عن قلقها على الحريات العامَّة، تحت غطاء مكافحة الوباء؛ بوصفها قوانين استثنائية تتعارض مع دستور البلاد الأساسي.
ولم يكن الحال في دولة الاحتلال بعيدًا عن هذه الأجواء؛ كما لدى التيَّار الدِّيني الحريدي؛ إذ بلغ إِعراض أفراد هذا التيَّار عن الالتزام بالتوصيات الصِّحية والإجراءات الوقائية حدَّ التحدّي والمعاكسة. بالتوازي مع تساهُل رئيس حكومة الإحتلال، بنيامين نتنياهو، مع تجاوزاتهم؛ لمصالحه الانتخابية الحزبية. وفي المقابل، تتعقّد المؤثرات، نحو الالتزام، أو قلّته، على خلفيّة التصوُّرات والعلاقة بالطبقة الحاكمة، مثالًا على ذلك، اتِّهامات إسرائيليين نتنياهو، باستغلاله إجراءات مواجهة كورونا، وفرْض الإغلاق؛ لمنع شعبه من خوض عصيانٍ مدنيٍّ ضدّ حُكْمه.
وفي البلاد العربية، تسهم مجموعة عوامل في تحديد التعاطي الشعبي، مع الوباء، والموقف من التدابير الحكومية لمواجهته. ولعل في طليعتها طبيعة هذا المرض الوبائي؛ وكونه لا يفتك بكثيرين، إذ يرى الناسُّ تعافي أغلبية المصابين به، وعبور نسبة كبيرة منهم المرض، من دون أعراض تقلق، أو تُذكَر. ولا سيما إن كانوا من ذوي المناعة القوية، وهذا ما لا يتعارض مع تقارير منظمة الصحة العالمية. ولشعور غير قليل من الناس بالتعارض بين الالتزام بإجراءات الوقاية ومصالحهم، فإنهم يتمنَّعون عن تقبُّل المرض نفسه، أو التعاطي الجِدِّي مع مخاطره.

دينيًّا، تُسهم "القَدْرِيَّة" المتأصِّلة في الشعوب العربية والمسلمة، بسبب أفهام خاطئة لمسألة القضاء والقدر، في تغييب الربط بين الأسباب والمُسَبَّبات

والصحيح أن هذا التعاطي الشعبي مع كورونا، بوصفه وباءً، ليس خاصًّا به، ولا يعدم السوابق، تاريخيًّا، ففي روايته، الطاعون، يصف ألبير كامو حالة شعبية شبيهة: "وبالرغم من هذه المشاهد غير المألوفة، فقد كان يشقّ على مواطنينا، في الظاهر، أن يفهموا ما الذي كان يحدث لهم. كانت هناك المشاعر المشتركة، كالفراق، أو الخوف، ولكن الناس ظلوا يُحِلُّون شواغلهم الشخصية في المحلِّ الأول. لم يكن هناك أحدٌ بعد قد قَبِل بالمرض حقًّا. وكان معظمهم شديد التأثُّر بما كان يزعج عاداتهم، أو يمسّ مصالحهم، كان ذلك يضايقهم، أو يغيظهم، وليست هذه مشاعر يمكن أن يُحارَب بها الطاعون".
ودينيًّا، تُسهم "القَدْرِيَّة" المتأصِّلة في الشعوب العربية والمسلمة، بسبب أفهام خاطئة لمسألة القضاء والقدر، في تغييب الربط بين الأسباب والمُسَبَّبات، وفي ضعف الأخذ بالتفكير العلمي، ونتائجه في السلوك الفردي، والاجتماعي، بصفة عامة. وفي الحوار الذي دار بين الخليفة الراشد الثاني، عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح، للتقرير في شأن طاعون عمواس، ما يمسّ هذه التصوُّرات مسًّا مباشرا، فقد جمع عمر الصحابة، مستشيرًا لهم بين المُكْث في الشام والرحيل إلى المدينة، "فَقالوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بالنَّاسِ ولَا تُقْدِمَهُمْ علَى هذا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ في النَّاسِ: إنِّي مُصَبِّحٌ علَى ظَهْرٍ؛ فأصْبِحُوا عليه. قَالَ أبُو عُبَيْدَةَ : أفِرَارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لو غَيْرُكَ قَالَهَا يا أبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ، نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إلى قَدَرِ اللَّهِ، أرَأَيْتَ لو كانَ لكَ إبِلٌ هَبَطَتْ وادِيًا له عُدْوَتَانِ، إحْدَاهُما خَصِبَةٌ، والأُخْرَى جَدْبَةٌ، أليسَ إنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ، وإنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ؟". ولا يزال يقع الخلط بين مفاهيم الإيمان والتوكُّل على الله، من جهة، ووجوب الوقاية من الأوبئة التي لا تحابي، بشكل عام، أحدًا، من جهة أخرى، قائمًا، مع أنه مات بطاعون عمواس قرابة عشرين ألفًا من المسلمين.

لا يزال يقع الخلط بين مفاهيم الإيمان والتوكُّل على الله، من جهة، ووجوب الوقاية من الأوبئة التي لا تحابي، بشكل عام، أحدًا، من جهة أخرى

وبسلاسة، ينسحب هذا التفكير المُكرَّس في وقائع الحياة اليومية على التعاطي مع الوباء الراهن، لِتغْلِبَ العادةُ والإلْفُ المفاهيمَ الطارئة، وليطغى زخمُ الحياة الاقتصادية والاجتماعية على محاولات التكيُّف. ويحاذي هذه العقلية التي لم تعتد الربط بين المقدِّمات والنتائج سمةُ السخرية، والسخرية، وإن كانت آليَّة دفاع عن الذات والجماعة، في وجه مفاعيل الأزمات التي تستعصي على الحلَّ، إلا أنها قد تكون أيضًا آليَّة هروبٍ من المواجهة، واستباقًا لتحمُّل التبعات الثقيلة لتلك المواجهة.
وأحيانا لا يكون التساهل أو المجازفة؛ (سيما في حالات الإغلاق) لنقصانٍ في الوعي، أو في القناعة، ولكنه الاضطرار إلى المجازفة؛ للحاجة المادية المُلِحَّة، لدى قطاعات واسعة من الناس الذين يعتاشون على كسبهم، يومًا بيوم، مع ضعف مستويات الأداء الحكومي؛ بإيجاد بدائل، أو تدابير موازية، ومواكبة. ففي الضفة الغربية وقطاع غزة، مثلًا، أظهر مسح للجهاز المركزي للإحصاء وُزِّع، أخيرًا، أنَّ 42% من الأسر فقدت نصف دخلها على الأقل، خلال فترة الإغلاق.
ومع ضعف ثقة قطاعات من الشعوب العربية بالمؤسسات الدولية، وأنها ليست بريئة من الخضوع لضغوط سياسية، أو تأثيرات أرباب المال والمصالح الكبرى، تتطرَّق الشكوك الشعبية، أيضًا، إلى صدقية الطبقات الحاكمة، في سياساتها، بصفة عامة، ففي الأحوال العادية، لم يكن المواطن العادي تعوزه المؤشِّراتٍ المتتابعة على تقدّم أولوياتٍ غير موضوعية، أو لفئاتٍ محدودة من المتحالفين مع الطبقة السياسية، على أولويات الشعب، ومصالحه الحيوية، في الصحة والتعليم، والعمل. ولم يكن مفاجئًا أن تتجلّى تلك العيوب الحكومية المعهودة في إدارة أزمة الوباء؛ في إرباكات، وتناقضات لاحظها الجميع.
ثم، وأخيرًا، قد تدفع الأحوال القاسية والمزمنة إلى اليأس، أو الزهد في الحياة نفسها، بوصفها هدفًا فطريًّا أوَّليًّا؛ فلا تنفكّ الحالة الوبائية وملابساتها عن مجمل الحالة الإجتماعية والسياسية، وتعقيداتها؛ سلامةً، واختلالًا. هذا من دون أن يعني ذلك تساهلًا مع المتساهلين، فليس الإخفاق في جانب، أو جوانب، مدعاةً إلى إلقاء الحبل على الغارب، وترك هذا الوباء المحتمِل الخطورة يتفاقم، بما لا تستطيعه الأجهزةُ الصحية والطبية، وبما لا تطيقه، بعد ذلك، البلادُ، اقتصاديًّا، واجتماعيًّا.