كنّا قراصنةً وهذه بوصلتنا

يُكثر الكتّاب والمثقّفون من ذكر "البوصلة"، و"الرسالة". تقول المذيعة للضيف: "ما الرسالة التي تريد إرسالها؟"، كأنّنا بحّارة تائهون، أو معزولون في جزيرة نائية، يرسلون رسائلَ استغاثة في زجاجة، من غير طوابع أو عبارة: و"لبوصلتهِ" الشكر.
لا تكاد مقالة أو مقابلة أو مناظرة تخلو من ذكر "البوصلة"، والبُوصلَة تعريفاً: "جهاز تُعيَّن به الجهات، يتركب من إبرة مغناطيسيّة، تتحرك حرّةً حول مركز ثقلها على سنّ مدبّبة في علبة من مادّة غير مغناطيسيّة، تستخدم في تعيين الاتّجاهات الجغرافيّة"، الإبرة حرّة، لا غلّ يقيدها، ولا مغناطيس يذلِّها، بغسّانٍ وعدنان.
ثمّ أدركتُ مثل أرخميدس في الحمّام أننا كنّا قراصنةً في عهد الأسد المغناطيسي، بعد إزالة أميركا العقوبات عن سورية، لكنّ السوري المعارض، الذي يلعب بالبيضة والحجر، فيكسر الحجر وتبقى البيضة، تشفّع لدى الرئاسة الأميركية، فقرّرت أن تُقسّط العفو إلى رخصة مؤقّتة. إنّ سبب انتشار القرصنة هو نظام القرصان المخلوع، والعقوبات الدولية عليه.
عدَّ أحدُ مراكز الإحصاء نحو ثلاثة آلاف عقوبة، وكلّها على الشعب، وقد شعرت بالعقوبات في سنّ اليفاعة بعد استقبال بريدٍ مرسلٍ من بلد عربي، والمركز دولي، وكان يشترط لتسلّمه جواز السفر، وليس البطاقة الشخصية، ولم يكن لديَّ جواز سفر، "إنّا لمغرمون، بل نحن محرومون".
اشترط مركز آخر لاستلام حوالة الرمز البريدي للمدينة، فتركت منزلة الرمز فارغةً في الطلب، لأنّ المدن السورية ليس لها رموز، ليس لنا سوى رمز واحد هو القائد الرمز.
سخر ضيف مصري مثقّف في أواخر التسعينيّات من السوريين، الذين يخافون من ذكر اسم رئيسهم إلا مصحوباً بألقاب التبجيل، في حين أنهم في مصر يشتمون حسني مبارك ليل نهار، لكنّه حسدنا على رخص التطبيقات الإلكترونية، ولها رسوم سنوية تُجبى إلكترونياً في بلاد العالم من البطاقة البنكية. كنّا نشاهد أفلاماً بدولار واحد، في حين يشاهدها الأوروبيون بأجر شهر ممّا تعدّون.
لكلّ مشكلة حلّ، والحلّ "بوصلة" بشرية؛ اذهب إلى أبو علي، فتذهب متردّداً من دخول عرين الأسد المغناطيسي، على مركز ثقلك، تقدّم قدماً وتؤخّر أخرى (ليس وصفاً لرقصة)، ولا تذهب إلا بشفاعة من أبي جعفر، فترشو أبو علي الأول، فيحوّلك ببوصلة إلى أبو علي الثاني (أبو علي كنية مثل جاك في قصة مدينتين لتشارلز ديكنز)، فتكون قد دفعت ما يقارب الرسوم العالمية، وخضت محنةً أشدُّ من محنة "جوزف ك." في رواية "المحاكمة" لكاتبها أبو علي كافكا الثالث عشر.
ذكر لي ألماني مقيم في بلدة حدودية أنه هولندي، لكن خطوط الحدود (عندهم سايكس بيكو أيضاً) ساقته إلى العيش في ألمانيا، فقلت له مواسياً من غير أن أتمطّى بصلبي أو أنوء بكلكل: الفرق ليس كبيراً بين ألمانيا وهولندا يا أبو علي، فالقوانين متشابهة والحدود مفتوحة. فأظهر الرضى. كنا كذلك يوماً لا فرق بين كابل ودمشق.
ذكّرني صديقٌ جرّاح بمأساة التيه والمحنة والقراصنة، وهو يكسب عشرين ضعفاً من كسبي من الصحافة والعمل البنّي (أزرق لكنّه بني)، حقنَ بإبرة غير مغناطيسية حبراً في محبرة الطابعة مجرياً عملية نقل دم، على ديدن السوري في اللعب بالبيضة والحجر، فتلقّى من أرباب الإنترنت رسالةً (من غير زجاجة) تنذره بحرمانه من استعمال الطابعة، لخرقه حقوق الملكية، وحقن المحبرة بزمرة دموية مختلفة (!)، وازداد إدراكي بخيبتنا، أنني عند وصولي إلى بلاد بني الأصفر، أبحرتُ في الإنترنت، فلم أجد تقطّعاً في الزبر، وتابعت فيلمي من غير عثرة. أمّا قطع الكهرباء فلم يقع، وقد مضى عليَّ مقيماً فيها نحو عقد من الزمن، بل إني تابعت فلم "زودياك"، وعرفت المجرم قبل أن يعرفه "كادجيت"، وشاهدت فيلماً صينياً استطعت فيه تمييز البطل من المجرم، والعدو من الصديق، وكأن الأمر يختلط عليَّ في الوطن، فلا أعرف العدو الذي أعيا من الصديق المداجي، لكنّي ما زلت في المنفى أستخدم برامج مقرصنة، و"يندوز" و"فوتوشوب". أمّا المحبرة فـ"أيزو"، و"خلنج" والحمد لله! أقضي حوائجي معتمداً على الله ومن ثمَّ البوصلة.
البوصلة كلبي الذي يهديني الطريق حتى إلى السرير، وأرسلُ رسائلَ في زجاجة مكسورة إلى عنوان مكتوب بالماء.

