كل هذه المشكلات المعيشية في سورية

20 يناير 2025

فتى سوري يبيع ألعاباً في وسط دمشق (17/1/2025 Getty)

+ الخط -

لا يمرّ يوم من دون أن تتلقّى السلطات، في مدن سورية وبلداتها وقراها، تقاريرَ عن حالات انفلات أمني، وانتشار سرقات وجريمة وأنشطة غير مشروعة، تبدو انعكاساً طبيعياً للفراغ الأمني، والانهيار الاقتصادي، والأوضاع الاجتماعية المتردّية، التي خلّفتها سنوات الصراع والحرب. وبديهي أن هذا الوضع يحمّل حكومة إدارة أحمد الشرع الجديدة مسؤوليات وتحدّيات مركّبة ومعقّدة في مختلف المجالات، إذ هي تحكم اليوم بلداً في حالة مريعة من الخراب، يشمل معظم قطاعاته الاقتصادية والإنتاجية والخدمية وبناه التحتية، مع مجتمع يرزح تحت وطأة الفقر، وندرة فرص العمل، وتفشّي البطالة، ما يجعل أغلبية العائلات السورية عاجزة عن تلبية احتياجاتها الأساسية.
وبحسب الإحصاءات، أكثر من 70% من سكّان سورية تحت خطّ الفقر، وأكثر من ربع هذا العدد يعيشون حالة فقر مدقع، ما يعني أن السلطة الحديدة تحكم مجتمعاً مدمَّراً، وبلداً منهوباً، وهو بالطبع مغاير لما نراه في شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي. لقد تجاوزت الأزمة الاقتصادية حدودها، لتتحوّل لأزمة اجتماعية تهدّد النسيج المجتمعي، خاصّة مع تدهور قيمة العملة، وتالياً القدرة الشرائية، وارتفاع معدّلات البطالة من نحو 13.5%، وفقاً لتقديرات منظّمة العمل الدولية لعام 2023، إلى أكثر من ذلك بكثير، ربّما هذا العام. وقد فاقم من ذلك كلّه تعمّد نظام الأسد إسقاط مؤسّسات الدولة، ونهب جزء كبير من مدّخراتها، ونشر الفوضى، قبل هروب بشّار الأسد إلى موسكو حاملاً معه ما استطاع حمله.

حلّ المشكلة في سورية يتطلّب الحلّ الأمني، وهذا لن ينجح ما لم تُوفَّر للشباب فرصَ عملٍ تسدّ حاجاتهم

وهكذا، بعد اسقاط النظام فُتِحت أبواب السجون من دون تمييز بين معتقلي الرأي (الواجب تحريرهم)، والمدانين بجرائم وأحكام قضائية، ممّا سمح لمجرمين جنائيين مدانين بقضايا السرقة والسطو المسلّح بالعودة إلى نشاطاتهم الإجرامية، في ظلّ ظروف الفوضى الأمنية الحالية في بعض المدن والأحياء، وخاصّة في المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب، في ظلّ ضمور واضح لجهاز الشرطة المدنية، بعد عملية إقصاء غير مدروسة للكثيرين منهم.
هنا يجدر الانتباه إلى ضرورة الاهتمام بإعادة تفعيل جهاز الشرطة المدنية أولوية قصوى، في ظلّ هذه الفوضى الأمنية الحالية، إذ يُعدّ هذا الجهاز مختلفاً في وظيفته عن الأجهزة الأمنية (المخابراتية) الأخرى، التي ارتبطت غالباً بالقمع، وانتهاك حقوق المواطنين. فجهاز الشرطة، بطبيعته المدنية، يمتلك معرفة دقيقة بملفّات المحكومين الجنائيين وسجلّاتهم، ممّا يجعله الأقدر على التصدّي لانتشار الجريمة المنظّمة والأنشطة غير المشروعة، وهذا لا يتناقض مع ضرورة إعادة تأهيل هذا الجهاز، وتزويده بالإمكانات اللازمة، وضمان استقلاليته عن الهيمنة الأمنية التقليدية، ما يساهم في استعادة ثقة المواطنين، وفي تعزيز الأمن المجتمعي. كما أن التركيز على دور الشرطة في حماية المدنيين بدلاً من مراقبتهم، يمكن أن يخلق بيئة أكثر استقراراً، ويعيد رتق النسيج الاجتماعي الممزّق.
يشير الواقع الحالي بذيوله الاقتصادية القاتمة إلى أن الفئات الأكثر تضرّراً هي الشباب، فزيادة معدّلات الجريمة والاضطرابات الاجتماعية غالباً ما تكون نتيجة مباشرة لغياب فرص العمل وانعدام الأمل، ما يعني أن حلّ المشكلة يتطلّب تأمين الحلّ الأمني من جهة، وهذا لن ينجح ما لم تُوفَّر للشباب فرصَ عملٍ تسدّ حاجاتهم من جهة أخرى، وهي مرتبطة بالأولى. أي إننا أمام تحدِّيَين متلازمَين لمنع الانزلاق التامّ نحو مجتمع منكوب بالكامل في ظلّ واقع اقتصادي واجتماعي هشّ. معالجة هذا الواقع المأساوي تتطلّب تبنّي رؤية شاملة تجمع بين الحلول الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، فتأمين الاستقرار الأمني لن يتحقّق من دون معالجة جذور المشكلة الاقتصادية التي خلّفها النظام السابق، وتُعدّ العامل الرئيس في تفاقم الفوضى والجريمة. في هذا الإطار، تأتي أهمية وضع برامج تنموية تستهدف الشباب، باعتبارهم الفئة الأكثر تضرّراً، من خلال توفير فرص عمل حقيقية تتيح لهم بناء مستقبل أفضل، وتقلّل من خطر انخراطهم في الأنشطة غير المشروعة.

التركيز في سورية على دور الشرطة في حماية المدنيين بدلاً من مراقبتهم يمكن أن يخلق بيئةً أكثر استقراراً

وهنا تكمن أيضاً أهمية الحديث عن التكتلات الاقتصادية التي ينشئها رجال الأعمال السوريون، إذ تلعب دوراً حيوياً في تسريع دوران عجلة الاقتصاد، من خلال استقطاب الاستثمارات، وإعادة تنشيط القطاعات الإنتاجية، مثل الزراعة، والصناعة، والخدمات، والتعليم، والتدريب المهني، لإعادة تأهيل القوى العاملة، وخلق مسارات جديدة للنمو الاقتصادي. يمكن لهذه التكتّلات أن توفّر فرصَ عملٍ عديدة، وتعيد الثقة تدريجياً إلى السوق المحلّية، كما أن تضافر جهود القطاع الخاص مع المبادرات الحكومية يمكن أن يساهم في خلق بيئة اقتصادية أكثر استقراراً، ويعزّز الأمل لدى الشباب في الحدّ من البطالة والاضطرابات الاجتماعية، وهذه الاستثمارات تحتاج بالطبع إلى أن تترافق مع تعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد، وضمان عدالة توزيع الموارد لاستعادة الثقة بين المواطنين والمستثمرين والدولة.
في الإطار ذاته، يُفترَض تعزيز دور المغتربين السوريين، الذين يشكّلون شريحة مهمّة من القوى الاقتصادية، فهم يمتلكون خبراتٍ ورؤوسَ أموالٍ وعلاقاتٍ يمكن أن تساهم بشكل كبير في دعم الاقتصاد المحلّي، خاصّة إذا توفّرت لهم بيئة قانونية وتشريعية مشجّعة. فالتعاون بين المغتربين والتكتّلات المحلّية يمكن أن يؤدّي إلى شراكات مثمرة، تساهم في توفير فرص عمل، وتحقيق التنمية المستدامة. ومن المفيد الإشارة إلى أن التجارب الدولية أثبتت أن التكتلات والأحزاب والجمعيات يمكن أن تلعب دوراً محورياً في إعادة بناء المجتمعات بعد الحروب والثورات، منها على سبيل المثال ألمانيا، إذ ساهمت النقابات العمّالية والجمعيات الاقتصادية، بعد الحرب العالمية الثانية، في قيادة عملية إعادة الإعمار، وتحقيق ما عُرف بـ"المعجزة الاقتصادية"، لأن هذه التكتّلات لم تكن وسيلة لتنسيق الجهود بين مختلف القطاعات فقط، بل كانت أيضاً منصّة لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة. وقد حصل مثل ذلك في جنوب أفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، إذ استفادت من التعاون بين الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية لتعزيز المصالحة الوطنية، وتحقيق التنمية الاقتصادية. وهذه النماذج تؤكّد أن التكتّلات ليست مُجرَّد وسيلة للتغلّب على البطالة والفقر، بل هي وسيلة لبناء مجتمعٍ خالٍ من الجريمة أيضاً، فهل تنفتح الحكومة السورية على مستلزمات الاستثمار؟... سؤال تبقى إجابته رهن المستقبل القريب جدّاً.

930EB9D8-8BB0-4CDA-8954-FE630C4A380F
سميرة المسالمة

كاتبة وصحافية سورية، رئيسة تحرير جريدة تشرين سابقاً، نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية