كلَّ رمضان وأنتم بخير
طفلة فلسطينية تحمل فانوسي رمضان بسوق في خانيونس في قطاع غزة (26/2/205 الأناضول)
مرّةً أخرى يدخلُ شهرُ رمضان على عالمٍ مضطرب متأزّم، فيرفع التحدّي، وينشر أنواره وأناشيده في مواجهة دخان الحرائق وطبول الحروب. والحقّ أنه شهرٌ كريمٌ مع الجميع، لكنّ الجميع قد لا يكونون كرماء معه. جاء في "العقد الفريد" أنّ رجلاً قال: أفطرتُ يوماً في رمضان. فقيل له: اقضِ يوماً مكانه. قال: قضيتُ وأتيتُ أهلي وقد عملوا حلوى، فسبقَتْني يدي إليها، فأكلتُ منها. فقيل لِي: نَرى ألا تَصُوم إلا ويدك مغلولة إلى عنقك. ذاك هو الحلُّ السحريّ الذي اهتدى إليه المتظارفون العرب مع أيدي أكلة الحلوى! حَلٌّ لا يخلو من طرافة. لكن ما العمل مع أيدي أكلة اللحم الآدميّ، تلك التي تشعل الحرائق وتدقّ طبول الحرب وتدمّر الأحلام؟
أغلب الظنّ أنّه إذا كان رمضان واحداً معنا فإنّنا في المقابل لسنا واحداً مع رمضان. فينا الصائمُ العفويّ الذي يكفُّ يده ولسانه، مُشبِعاً روحه، واجداً ضالّته في التأمل والعطاء والعمل. إلا أنّ فينا المتصائم أيضاً، الذي له في الصيام مآرب أخرى، ويرتدي إهابَ الصائم كما يرتدي الممثّل القناع. وهذا الصنف من الكثرة بحيث يسهل تأليف كتاب في الموضوع، عنوانه "المعجم المزدان بأسماء صائمي رمضان". من ذلك "الصائم الاصطناعيّ"، الذي تجمعه برمضان علاقاتُ صداقةٍ وحُسن جوارٍ، من دون أن يتبادلا السفراء والبعثات الدبلوماسيّة. وثمّة "الصائم الاضطراريّ"، الذي يصومُ بالمُجاراةِ، فيصيبه وابلٌ من الصوم أشبه بالنيران الصديقة. وثمّة "الصائم الانتهازيّ"، الذي يفضّل أن يرى هذا الشهر مثل كأس العالم لكرة القدم، مرّة كلّ أربع سنوات. ولعلّه يُذكّر بعضد الدولة الذي قال: "دعنا نتسانن عند الدخول فيه، ونتشيّع عند الخروج منه، لينقص لنا يومان، يوم من أوّله ويوم من آخره".
وثمّة "الصائم الشكلانيّ"، الذي يصوم عن الطعام، لكنّه لا يصوم عن الكذب والحسد والنميمة والغدر وارتكاب كلّ شرّ. وثمّة "الصائم السياسيّ"، الذي يصوم ويصلّي لحاجةٍ في نفس يعقوب، على رأسها استمالة لقلوب الناخبين. وثمّة "الصائم الحربيّ"، الذي يصوم كأنه يخوض حرباً على غير الصائمين. يجوب الشوارع وجوارحه كلّها بالمرصاد لأيّ حركة مشبوهة تشي بالإفطار ومرادفاته، ناسياً أنه لو ترك خلق الله لشأنهم وأحسن صيامه لكان أفضل له. وثمّة "الصائم الاستهلاكيّ"، الذي لا يرى في رمضان إلا الموائد العامرة. ولعلّه نسخة من ذلك الطفيلي، الذي قيل له: أيّ سورة تعجبك من القرآن؟ قال: سورة المائدة. قيل: فأيّ آية تعجبك من القرآن؟ قال: الآية الثالثة من سورة الحجر "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا". وثمّة "الصائم التجاري"، الذي لا يصوم يوماً إلّا ضَرَب أخماسه في أسداسه، ليرى كم غُفِر له من خطايا بذلك اليوم. وهو يُذكّر بتلك المرأة التي سمعت أن صومَ يومِ عاشوراء كفّارةُ سنة، فصامت إلى الظهر، ثمّ أفطرت وقالت: "يكفيني كفّارة ستّة أشهر، منها شهر رمضان".
هؤلاء عموماً من صنف "المتصائمين"، الذين يُتعِبُهم لَعِبُ هذا الدور، فإذا هم يرغون ويُزبِدون أو "يُرَمْضِنُون". و"المُرَمْضِنُ" عبارةٌ عاميّة تونسيّة، درَجَ إطلاقُها على كلّ شخص يرخي لعدوانيته العنان بدعوى أنه صائم، وأن مزاجه مثل الزفت. ويبدو أن هذا الفعل التونسي الأصيل (رَمْضَنَ يُرمْضِن، ترَمْضِيناً) لم يعد ماركةً تونسيةً مُسجّلة. لقد فاجأَنا بعضُ كبار العالم منذ مدّة بنوبات مسعورة من "الترمضين" العالميّ المسلّح، وأخذوا يعجنون حقوق الإنسان على كيفهم، ويشنّون الحروب وفق مزاجهم، في رمضان وفي غير رمضان، ما دفع بعض الساخرين إلى استحضار العبارة الشعبية القديمة "الجمل يحمل الأثقال والقراد ينيّن"، ناسجين على منوالها عبارة ًجديرةً بواقعنا الجديد "نحن نصوم، والآخرون يرمضنون علينا".
أيًّا كان الأمرُ، رمضان شهرٌ كريمٌ حقّاً، يتعامل مع الجميع، الصادق والانتهازي والمتصائم والمرمضن، بالسخاء نفسه. إنّه شهرُ الرحمة والعدل في زمن القلوب الرخام. شهرُ التسامح في زمن التشفّي والانتقام. شهرُ التكافل والتآخي في زمن الأنانيّة. يدافع عن المحبّة ويفتح الأبواب المسدودة في وجه أولئك الذين يبحثون عن الأمن والسلام. يُحيي في الأرواح روحانيّتها، داعياً الجميع، مهما كانت دياناتهم أو أصولهم، إلى ممارسة الإنسانية بأسمى معانيها. في كلّ لقمة تُقتسَم مع جائع، وفي كلّ دعاء يرتفع من قلب موجوع، وفي كلّ يدٍ تمتدّ لمساعدة محتاج، تتوهّج آياته ويتجلّى كرَمُه.
كُلّ رمضان وأنتم بخير.