كلّنا محمود خليل

06 ابريل 2025

ملصق لمحمود خليل على قميص متظاهر أمام محكمة في نيوارك بولاية نيوجيرسي (27/3/2025 Getty)

+ الخط -

في سابقة من نوعها، وتحت عنوان "أنا خليل"، خصّصت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية مقالاً عن الطالب الفلسطيني محمود خليل، الموقوف حالياً، والمهدّد في الولايات المتحدة بالترحيل، لدوره القيادي في التظاهرات المناهضة لإسرائيل في جامعة كولومبيا الأميركية. واعتبرت في مقالها أن توقيف خليل (يصحّ فيه وصف "المختطف" أكثر من "المحتجز" باعتبار أنه لم يخرق أيّ قانون) ينبغي أن يشكّل مصدرَ قلق لكلّ أميركي. وعلّقت المقالة قائلة: "مصير خليل يُمثّل اختباراً لمدى سهولة انزلاق الرئيس دونالد ترامب نحو الخروج عن القانون"، في أميركا الجديدة، التي تبدو فيها الحرّيات اليوم أقرب ما تكون إلى وضعها في ما يسمّى "العالم الثالث". فانتصار ترامب في هذه القضية بالذات يعني سقوط حكم القانون في البلاد، حيث الحرب ضدّ الحريات الليبرالية مستعرة، وتؤدّي فيها الجامعات دوراً ريادياً لجهة التصدّي لما يبدو أنه توجّه الإدارة الأميركية الجديدة لتفسير خاصّ للحقوق، يمنحه التعديل الأول للدستور، بحجّة مكافحة الإرهاب أو الحفاظ على المصلحة الوطنية.

لم تقدّم إدارة ترامب أدلةً على تهديد محمود خليل مصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة

أُلقي القبض على محمود خليل، الطالب في كولومبيا (8 مارس/ آذار 2025)، بموجب بندٍ في القانون الفدرالي يمنح وزير الخارجية الأميركي سلطة ترحيل أيّ شخص إذا اعتُبر أن لوجوده في البلاد "عواقب وخيمة محتملة على السياسة الخارجية" للولايات المتحدة. بذلك، بات أي شخص في البلاد، مهاجراً كان أو أصيلاً، عرضةً للترحيل وسلب الحقوق المدنية الأساسية، خصوصاً أن البند المذكور في قضية ترحيل خليل (وطلاب آخرين) نادراً ما استخدم، ويجعل حدود سلطة وزير الخارجية التقديرية فضفاضة. لم تقدّم إدارة ترامب أدلةً على كيفية تهديد خليل مصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إلا أنها أعلنت أنها تستخدم القضية درساً أو "نموذجاً" لملاحقة طلاب آخرين منضوين في الحراك الجامعي، بعدما غرّد ترامب أن توقيف خليل ليس سوى خطوة أولى في حلقة ملاحقات للناشطين. تلا توقيف خليل سلسلةٌ من الحوادث المشابهة، منع باحث فرنسي من دخول البلاد رغم حصوله على تأشيرة دخول، بعد العثور على تعبيرات ناقدة لإدارة ترامب في جهاز الهاتف النقّال خاصّته. طُرد الباحث، الذي كان يقصد مؤتمراً علمياً في هيوستن، بعدما تعرّض لتفتيش استخداماته "السوشيال ميديا" في المطار لدى وصوله. أُوقف الباحث في مجال السلام في الشرق الأوسط في جامعة جورج تاون، الهندي بدر خان سوري، بتهمة الدعاية لحركة حماس، فيما اعتبر محاموه أن التوقيف ذو صلة بعلاقات زوجته الأميركية من أصل فلسطيني ونشاطاتها. اعتُبر إلغاء تأشيرة الباحث ثاني أبرز معركة قانونية بين إدارة ترامب وحرّية التعبير في الحرم الجامعي. في حالة ثالثة بارزة، رحّلت الطبيبة، والمحاضرة الجامعية رشا علوية، بعد عودتها من لبنان، رغم أن تأشيرة الإقامة خاصّتها لا تزال سارية. لم تُقدّم أيّ أسباب لطرد الطبيبة الجامعية، التي احتُجزت 36 ساعةً في مطار بوسطن، قبل ترحيلها إلى لبنان. في وقت كتابة هذه السطور، تقدّمت طالبة في جامعة كولومبيا بدعوى ضدّ ترامب ردّاً على محاولة ترحيلها من البلاد، بحجّة مشاركتها في الحراك الطلابي.
في تصريح خاصّ حصلت عليه صحيفة ذا غارديان البريطانية، قال محمود خليل من مركز احتجازه في لويزيانا: "أنا سجين سياسي. أستيقظ في صباحاتٍ باردة، وأقضي أياماً طويلةً أشهد على الظلم الصامت المُرتكَب بحقّ أشخاصٍ كثيرين محرومين حماية القانون". ... لقد بات طلاب الجامعات الغربية من العرب (وغيرهم) الناشطون في الحراك ضدّ جرائم الحرب الإسرائيلية خطّ الدفاع الأول عن الحرية الأكاديمية التي أصبحت عرضة لتضييق غير مسبوق بحجّة مكافحة الإرهاب أو التصدّي لتعبيرات معادية للسامية. خرج حراكهم عن هدفه الأساسي، ليصبح رأس حربة المعركة من أجل الحرّيات في حُرُم الجامعات، المعترك الأساس للأفكار التقدّمية، والهدف الأول لإدارة ترامب، إلا أن الهجمة على الحرّيات الأكاديمية، والحراك الطلابي المناهض للإبادة في غزّة، وسياسات التمييز العنصري الإسرائيلية لا تقتصر على الولايات المتحدة.

خرج الحراك الطلابي من مجرّد مناهضة السياسات الإسرائيلية إلى محاسبة إدارة الجامعات واستعادة دور الحرم الجامعي في النضال من أجل الحقوق والحرّيات

على سبيل المثال، في حالة غير مسبوقة في الجامعات البريطانية، يتعرّض ستّة طلاب من جامعة أيسيكس (حيث تعمل كاتبة هذه السطور) لتحقيق بتهمة تأييد جماعة محظورة. يخضع الطلاب لتحقيق جامعي تأديبي بحجّة نشرهم موادَّ إخباريةً في مواقع التواصل الاجتماعي، بما فيها فيديو نشره موقع ميدل إيست آي (مسجّلٌ مؤسّسةً إعلاميةً بريطانيةً)، تعليقاً على اغتيال رئيس المكتب السياسي الأسبق لحركة حماس، إسماعيل هنية. يخضع الطلاب لتحقيق استمرّ أكثر من مائة يوم من دون أن تتوصّل لجنة التحقيق إلى قرار بشأن ما إذا كان الطلاب انتهكوا قواعد السلوك الطلابي، ما قد يعرّضهم للطرد. خلافاً للقوانين الجامعية التي تقتضي أن تتخذ قراراً في تحقيقات ذات طبيعة تأديبية في غضون مدّة لا تزيد على 60 يوماً، لا تزال الجامعة تماطل في اتخاذ قرار بشأن الطلاب الستّة الناشطين في الجمعية الطلابية الفلسطينية. وكانت إدارة الجامعة قد بلغت الشرطة بحالة الطلاب الستّة للاشتباه في أنهم "مؤيّدون للإرهاب"، لنشاطاتهم المناهضة للإبادة في غزّة، استناداً إلى شكوى قدّمها الموقع الإلكتروني جويش كرونيكل، بعد نشره تحقيقاً عن الطلاب، قدّمهم أنهم مؤيّدون للإرهاب، رغم سمعة الموقع السيئة واستقالة العديد من المساهمين فيه بعد نشره تحقيقات تبيَّن أنها مبنيةٌ على معلومات زائفة.
لا تكفي هذه السطور لتعداد الحالات المتزايدة للمضايقات التي يتعرّض لها الطلاب في الحراك الجامعي من أجل فلسطين، ولو أن هذا الحراك خرج من مجرّد مناهضة السياسات الإسرائيلية إلى محاسبة إدارة الجامعات على مسؤولياتها الأخلاقية، وإلى استعادة دور الحرم الجامعي الريادي في النضال من أجل الحقوق والحرّيات. كتب المفكّر الفلسطيني رشيد الخالدي مقالاً نشرته ذا غارديان، بعنوان "هل لا تزال كولومبيا تستحقّ لقب جامعة؟". ويمكن طرح السؤال نفسه عن مختلف الجامعات الغربية، حيث الحرية الأكاديمية تُؤطَّر بحسب من تخدم. سيفتح تراجع الجامعات عن الحرّيات الأكاديمية الأساسية، بحجّة مكافحة الإرهاب ومعاداة السامية، أبواب جهنّم عليها، إذ إنها بذلك اختارت أن تتواطأ مع عملية تحجيمها وتخلّيها عن دورها الرئيس معتركاً للأفكار التقدّمية. الآتي قد يكون أعظم.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.