كلمات من أنطاليا

13 ابريل 2025

من حفل لأوركسترا أنطاليا السيمفونية في منتدى أنطاليا الدبلوماسي (12/4/2025 الأناضول)

+ الخط -

كأن ثمّة "ثنائية ضدّية"، بلغة أصدقائنا القدامى، البنيويين، أن مدينة أنطاليا، السياحية كما يشيع وصفُها المستحقّ، قليلة السكان نسبيّاً من بين ولايات تركيا (أقلّ من مليونين)، والرائقة والوديعة حقّا، ينتظم فيها منذ أربع سنوات منتدىً يُدعى إليه ويُستضاف فيه مئات المشاركين، ويحضُره آلافٌ، يختصّ بشؤون الإقليم والعالم، أي بالسياسة والاستراتيجيا والاقتصاد، أو بلغةٍ أدقّ، بالنزاعات والصراعات والأزمات، بالحروب ونواتجها، بالتوتّرات والعلاقات الصعبة بين الدول. ... يتقاطر السواح، وبالملايين كل عام، سيّما من روسيا، إلى هذه المدينة، العتيقة منذ قرون قبل الميلاد، الشاطئيّة ومعتدلة المناخ (وإنْ يسشتعر زائرُها في أيام الربيع هذه بعض البرودة، ليلاً خصوصاً)، ويشتري مغتربون ولاجئون وزوّارٌ بيوتاً فيها، للإجازات وتغيير المزاج وتوسّل الراحة. وإلى ملتقياتٍ ومؤتمراتٍ كبرى، في شؤون الاقتصاد والصناعة والطاقة وغيرها (استضافة قمّة مجموعة العشرين في 2015 مثلاً) استضافتها المدينة، بالنظر إلى فخامة فنادق غير قليلة فيها، فإنها مفارقةٌ، إلى حدّ ما، أن تختارها الخارجية التركية لاستضافة "منتدى أنطاليا الدبلوماسي"، في أثناء فترة الوزير السابق، شاويش أوغلو، وهو نائبٌ منتخبٌ في برلمان بلاده عن ولاية أنطاليا، ما قد يعني توجّهاً إلى تنويعٍ في صورة المدينة الجاذبة، وتزكيةً لاسمها في أوساط أهل السياسة والميديا. ولا يقلّل من القيمة الخاصة لهذا التجمّع السنوي، والذي يُلَحّ على موضوعته الأساس، الدبلوماسية، أن يقال إنه ضمن جهد العلاقات العامة الذي تنشط فيه مختلف الوزارات والمؤسّسات والهيئات التركية. ولئن يفتتح أعمالَه رئيس البلاد، أردوغان، بخطابٍ شامل، يحيط بمواقف الدولة من حزمة من القضايا والمستجدّات الأقليمية والدولية، وبعض مشاغل الداخل، فذلك مما يضاعف من مكانة هذا المنتدى بين منتدياتٍ عالميةٍ وعربية ودوليةٍ دورية، صارت منصّاتٍ للحوار والتلاقي والنقاش، ليس في قضايا السياسة بالمفهوم المغلق لها، وإنما أيضاً في قضايا الرقمنة والذكاء الاصطناعي والرهانات التي تتراكم أمام الإنسان المعاصر في أنساق عيشِه وعمله وحضوره العام.

كانت زيارة صاحب هذه الكلمات المدينة التركية أول مرّة قبل عشرة أعوام مطبوعةً بإيقاع سياحي، بدعوةٍ من جهةٍ تركية، غير أن الزيارة التي سنحت ثانيةً، وفي غضونها تنكتب هذه السطور، لا وقت فيها للتعرّف أكثر على ما في المدينة الواسعة من معالم ومتاحف وحدائق وفضاءات عامة وشواطئ ومنتجعات، وقد تيسّر تجوالٌ في بعضٍ من هذه كلها في تلك السفرَة، ذلك أن المشوار هذه المرّة للإنصات إلى سياسيين وخبراء ومسؤولين من كل القارّات، وهم يجولون في شؤون العالم، ويُسألون ويجيبون ما أمكن، ولكنْ بإيقاع الذين يدردشون، وبكثيرٍ من التخفّف من إكراهات الدبلوماسية إذا كانوا في مواقع مسؤولة. والإفادة هنا أنك تقفُ على مؤشّراتٍ واتجاهاتٍ وأفكارٍ وانتباهات، أكثر مما تُحرز معلوماتٍ وتصريحاتٍ فيها الجديد والمثير. وفي الغضون، يكفي أن تلمح الرئيس السوري أحمد الشرع برفقة زوجته، يدخُل القاعة بين جمعٍ من البشر يحوطُه. ويكفي أن تلحظ، من على مبعدة، ولكن في مرمى النظر، رئيس مجلس السيادة في السودان، عبد الفتاح البرهان. قد لا يشغلك رؤساء آخرون لبلادٍ أخرى، لكنك لن تستطيع أن تدفع عن نفسك فضولاً فيك أن تلاحظ ما عليه الرئيس المُضيف، أردوغان، وهو في شعور المبتهج، كما تخمّن، وهو يحيّي الحضور، وهو يرفع صوتَه في هذا المقطع وذاك في كلمته الافتتاحية غير القصيرة للمنتدى، وهو يُصفَّق له، عندما يرمي إسرائيل بمقذوفاتٍ من الكلام الكبير، عن حرب الإبادة التي ترتكبها في غزّة، وأيضاً عندما يقول إن علينا أن نفعل شيئاً لوقف هذه الحرب.

ليس من مزاج للسياحة والتسوّق والتبضع وتبديد الوقت كيفما اتفق، في مدينةٍ عبَر فيها الفينيقيون ثم الرومان والبيزنطيون في قديم الأزمنة، وإنما هو سماع كلامٍ يتلوه كلام عن مسؤوليات عالمية تجاه الأمن والسلام في إفريقيا، وعن تحالفاتٍ في حوض البحر الأسود، وعن قضايا الطاقة، وعن أسئلة الجندر والمرأة، وعن الصومال ومشكلاته، وعن استراتيجياتٍ وسيناريوهات، وعن كثيرٍ مما ليس في الوسع متابعته أو إجهاد الذهن في شأنه.

أظنّها خسارةً أن يُحرَم زائر أنطاليا من متعة الفرجة والتسرية عن النفس في بدائع هذه المدينة ورحابتها... لكن السلوى أن شيئاً من هذا تيسّر في زيارةٍ سابقة، وربما يتيسّر أكثر منه في أخرى لاحقة.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.