كسر إيران استراتيجياً
أعلام إيرانية ترفرف بينما يشتعل حريق في مصفاة نفط جنوبي طهران (15/6/2025فرانس برس)
لا بدّ من التذكير بأن إسرائيل بضربها إيران قطعتْ خطّ التفاوض المفتوح بين طهران وواشنطن، الذي كاد الطرفان يتوصّلان من خلاله إلى تفاهمات مبدئية، وضاقت بينهما الفجوات المتعلّقة بمسائل خلافية مثل مستقبل تخصيب اليورانيوم، والكمّيات المخصّبة بالفعل، وغيرها من مسائل شهدت حلحلةً في الجولة الماضية من التفاوض، قبل الضربة الإسرائيلية بأيام. أي أن حرمان إيران من امتلاك سلاح نووي كان قريباً، وهو هدف المباحثات مع واشنطن أساساً. وقد انخرطت إيران في المسار التفاوضي وهي تدرك ذلك جيداً وتُقرّ به، وتعتبره متّسقاً مع موقفها الرسمي، الذي ينكر نيّتها امتلاك سلاح نووي.
لكن لأنّ هدف إسرائيل قابل للتحقيق بأكثر من طريقة، اختارت منها الطريقة السينمائية: استعراض القوة، وتأكيد التفوّق العسكري الكاسح، وكسر الكبرياء الإيراني، والسخرية من الشعارات الرنّانة التي يردّدها الإيرانيون تهديداً ووعيداً لتل أبيب. وإسرائيل في هذا السياق الاستعراضي لم تهمل الجانب العملي، فجاءت ضرباتها شاملةً ومتنوّعةً، ولم تستثن أيّاً من مكوّنات منظومة القوة العسكرية الإيرانية ذات الأهمية، بدءاً بمنشآت نووية، مروراً بمنصّات الدفاع الجوي وقواعد صاروخية، وانتهاء بقيادات الصفّ الأول في المؤسّسة العسكرية، وبعلماء وخبراء نوويين.
ورغم أن تلك العملية، التي أطلقت عليها تل أبيب "الأسد الصاعد"، حملت معها نتائج شديدة السلبية (والخطورة) على أمن المنطقة واستقرارها، وفتحت باباً واسعاً لنزاعات ومواجهات أخرى لاحقة؛ إلّا أن مزاياها أكثر، ومردودهاً أوسع نطاقاً وأعمق أثراً، من وجهة النظر الإسرائيلية، خصوصاً بالمقارنة مع ما كان متوقّعاً حال التوصل إلى اتفاق تفاوضي بين طهران وواشنطن، فالاتفاق، أيّاً كان مضمونه، لم يكن سيؤدّي إلى التخلّص من قيادات الصفّ الأول في الجيش الإيراني ومؤسّساته الرئيسة، وبصفة خاصّة الحرس الثوري، كما كانت طهران ستحتفظ بعلمائها وكوادرها البشرية الخبيرة في البحوث والأنشطة النووية، ولم تكن ستتخلّى كلياً، لا عن استئناف تخصيب اليورانيوم بنسبة ما، ولا عن احتفاظها ببعض كمّيات اليورانيوم المخصّب بالفعل.
هذا كلّه، فضلاً عن العامل الداخلي الذي يمثّل مُحدِّداً جوهرياً في قرارات بنيامين نتنياهو الخارجية، فهو منذ اندلاع "طوفان الأقصى"، وانكشاف ضعف البنية الأمنية وهشاشة التوافق السياسي في حكومته، يبحث بدأب عن مواجهات خارجية تطيل عمره في الحكم، ويغطّي بها الفشل الذريع في منع "السابع من أكتوبر"، ثمّ الإخفاق مراراً في تحرير الأسرى من دون صفقات مع حركة حماس، وليست ببعيدٍ التحرّشات والمناوشات التي باشرتها تل أبيب في الحدود المصرية، خصوصاً عند معبر رفح، ثمّ التوغّل داخل الأراضي السورية بعد سقوط بشّار الأسد. أمّا وقد نجحت عملية "البيجر" في قصم ظهر حزب الله، وبعدها إيلام الحوثيين بشدّة وتحجيمهم، فإنّ الاستفراد بإيران منطقي تماماً، بعد أن أصبحت فعلياً، وبالمقاييس كلّها "عدواً نموذجياً"، وهدفاً مثالياً للتصويب عليها.
رغم تلك المعطيات، والبيئة المواتية لحشر طهران في الزاوية، ليس من أهداف إسرائيل ولا الولايات المتحدة، تدمير الدولة الإيرانية، أو حتى تغيير نظام الحكم فيها، بعد النتائج المتباينة وغير المتوقّعة للتغيير في كلّ من العراق وليبيا والسودان واليمن، خصوصاً أن نظام الحكم الإيراني يقدّم خدمات مجّانية لواشنطن وتل أبيب، بتوتير المنطقة وتهديد استقرارها وإثارة قلاقل داخلية فيها، فضلاً عن أنه مصدر تهديد دائم لدول الخليج، ما يكفي تماماً، ويُبرّر ارتماء بعضهم في أحضان واشنطن، وتحالف بعضهم الآخر مع إسرائيل. ولذلك، فإن "كسر" إيران وتطويع سياساتها من دون تنازلات أو ثغرات، هو هدف استراتيجي، لكن ليس إسرائيلياً وأميركياً فحسب.