كبرياء الضعفاء

09 يونيو 2025
+ الخط -

قبل أسبوعين، وجهت أوكرانيا ضربة عسكرية قاسية إلى روسيا، دمّرت فيها عشرات من الطائرات الحديثة وضربت قواعد عسكرية متقدّمة، يحوي بعضها رؤوساً نووية. وكانت المفاجأة والذهول البادي على المسؤولين الروس، بحجم وشدة الدمار والخسائر التي تكبّدتها المؤسسة العسكرية الروسية.

ولا حاجة إلى ذكر الفارق الشاسع في القوة العسكرية بين أوكرانيا وروسيا لصالح الأخيرة. وما يستدعيه من تساؤلات متعددة حول أسباب ودواعٍ تمكّن كييف من توجيه تلك الضربة القاصمة إلى الآلة العسكرية الجبارة التي تملكها موسكو. لكن السؤال الجدير بالتوقف أمامه كثيراً يتعلق بمبرّرات التفاجؤ أو "الغفلة" الروسية أمام عملية "شبكة العنكبوت" حسب ما أطلقت عليها أوكرانيا، فالجانب المعلوماتي والاستخباري أحد أهم مصادر القوة العسكرية والقدرات الشاملة لأي دولة. ومهما قيل عن مساعدات غربية لكييف، لا شك في أن موسكو تعرّضت لضربة كبيرة تصل إلى حد الإهانة على المستوى العسكري العملياتي، خصوصاً بعد انحسار الدعم الأميركي لأوكرانيا واضطرار زيلينسكي إلى خوض مفاوضات مع موسكو بضغط هائل وعلني من دونالد ترامب.

المثير للدهشة أن ضربة "شبكة العنكبوت" لم تكن الأولى من نوعها في المواجهات بين طرف ضعيف وآخر قوي بالمقاييس المادية للقوة، فقبل 20 شهراً، في 7 أكتوبر 2023، وجهت فصائل المقاومة الفلسطينية ضربة تاريخية لجيش الاحتلال الإسرائيلي. لا يزال يعاني من هولها الإسرائيليون جنوداً ومواطنين ومسؤولين، ولم يستفق منها بعد أي من فئات المجتمع أو مؤسسات الدولة اليهودية.

فإن كان ثمة شكوك أو تفسيرات يمكن طرحها حول ضربة أوكرانيا لروسيا، لا تفسير منطقياً أو معيارياً يمكن إيجاده لصفعة "طوفان الأقصى" على وجه إسرائيل. ولم تكن تلك أيضاً الحالة الأولى من نوعها، فقد سبق للمصريين إنزال هزيمة عسكرية مباشرة ومحددة في حرب أكتوبر (1973). فرغم أنها كانت محدودة النطاق العملياتي ومحدّدة الأهداف الاستراتيجية، إلا أنها نزلت كالصاعقة فوق رؤوس الإسرائيليين، من غولدا مائير حتى أصغر طفل هناك.

في تلك الحالات، وغيرها، يصعب تحديد أسباب واضحة يمكن قياسها إمبريقياً، وراء تلك الانتكاسات التي تتعرض لها دول قوية ذات إمكانات طاغية وسياسات متجبرة. وإن كان في الأمر شيء من الميتافيزيقا أو ما يفترضه المسلمون من دعم إلهي وحماس عقائدي، قياساً على وقائع تاريخية قديمة من زمن فات وانتهت معه المعجزات؛ فهو يظلّ محصوراً في نطاقيه، الزمني والموضوعي. بل يناقض الواقع المعاش حالياً هذه التفسيرات ويبطلها؛ فالأوكرانيون لم ينسبوا فضل "شبكة العنكبوت" إلى رعاية المسيح أو صدق إيمانهم به. وإلا لأُثير سؤال منطقي بشأن موقف تلك الرعاية وذلك الإيمان منذ بداية الحرب. وينطبق التساؤل نفسه على الفلسطينيين الذين تمتد محنتهم بضعة عقود؛ ولم تكفهم عقيدتهم شرور إسرائيل وجبروتها.

المسألة كلها، أن الدول القوية والمستكبرة في العالم تمتهن كرامة الضعفاء وإنسانيتهم، وتمعن في سحق كبريائهم. وتصل من الغرور والعنجهية حد الاستسهال والإهمال في اتخاذ التدابير اللازمة لاستمرار فجوة التفوق والسيطرة. وفي المقابل، تصل الدول أو الشعوب المسحوقة المستضعفة، بمرور الوقت، إلى قناعةٍ باستحالة تحصيل الحقّ المسلوب سلمياً أو التوصل إلى تسوية عادلة بالحوار والتفاوض. وأياً ما كانت تكلفة المقاومة والرد بالقوة، لن تزيد عن ثمن الانصياع والخضوع، فتكون ردة الفعل الطبيعية رفض الانكسار وإنكار أبدية الهزيمة.

إنها الرسالة التي تصل مباشرة إلى من يهمه الأمر، أن فقدان الأمل وانسداد السبل لا يعنيان إلغاء الحقوق أو مغالطة التاريخ، بل يفضي حتماً إلى انتفاض أصحاب الحق. وحسب المثل الشائع "ما زاد عن الحد ينقلب إلى الضد".

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.