كامل إدريس... الدمية التي لم تتحرّك بعد

23 مايو 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في لحظة سياسية مفصلية يواجه فيها السودان حرباً طاحنةً وانهياراً مؤسّسياً غير مسبوق، قرّر رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان تعيين رئيس وزراء من طرف واحد، في خطوة وُصفت بأنها محاولة مكشوفة لإضفاء طابع مدني على سلطة عسكرية مأزومة، لكنّ الردّ لم يأتِ هذه المرّة من شارع غاضب أو حراك ثوري، بل من داخل أروقة مؤسّسة تقليدية، مجلس اللوردات البريطاني، وصف أحد أعضائه البارزين، وهو اللورد جيرمي بورفيس، رئيسَ الوزراء المُعيَّن بأنه "دمية". لم يكن ذلك مجرّد تعبير عابر، بل تشخيصاً رمزياً كثيفاً لسياق معقّد تتشابك فيه الإرادة المفقودة والشرعية المنعدمة، والحقيقة السياسية المراوغة.

حين نُعت الرئيس الجديد بهذا التوصيف، لم يكن اللورد البريطاني يمارس تهكماً دبلوماسياً أو يسعى إلى التأثير في موازين القوى في السودان، بل كان يُعرّي السياق الذي أُنتج فيه هذا التعيين: رئيس وزراء بلا قاعدة شعبية، لم يُنتخَب، ولم يُطرح اسمه في أيّ مشاورات سياسية، لم يكن نتاج تسوية وطنية أو مبادرة جامعة، بل جاء بقرار فوقي من قائد عسكري تتآكل شرعيته بسرعة. والأسوأ أن رئيس الوزراء هذا لا يحمل أيّ برنامج واضح أو خلفية تؤهّله لقيادة بلد يعيش أزمات مركّبة: حرب أهلية، ونزوح واسع، واقتصاد منهار، ومؤسّسات تتآكل كلّ يوم. وصف "الدمية" هنا لا يُفهم شتيمةً شخصيةً، بل إشارةً دقيقةً إلى علاقة التبعية السياسية بين الرجل والجنرال البرهان، ومن خلفه تحالف إسلاموي عسكري يسعى مجدّداً إلى تجميل وجه الاستبداد بطلاء مدني هشّ.

لم يُثر هذا السياق المهتزّ قلق لندن وحدها، بل سلّط الضوء أيضاً على المفارقة التي فجّرها موقف الاتحاد الأفريقي، الذي سارع إلى الترحيب بالحكومة الجديدة، وهو ترحيب أثار استغراب اللورد جيرمي، وطرح أسئلةً أخلاقيةً وسياسيةً حول مؤسّسة يُفترض بها تمثيل مصالح الشعوب، فإذا بها تُبارك حكومةً وُلدت من رحم مرسوم عسكري لا من إرادة وطنية.

كيف يمكن للاتحاد الأفريقي أن يغمض عينيه عن سجلّ الانتهاكات، ويُبدي الحفاوة بحكومة لم تمثّل أحداً سوى معسكر السلطة المفروضة؟... مثل هذا الموقف، في نظر مراقبين كثر، لا يعكس ضعفاً في استقلالية القرار الأفريقي فقط، بل يكشف انحيازاً بنيوياً مزمناً نحو قوى الأمر الواقع، حتى إن ارتدت قناع المدنية الزائف.

ما يبحث عنه الشارع السوداني، ليس مجرّد حكومة جديدة أو أسماء مدنية تُدبّج خطاباتها في بورتسودان، بل شرعية جديدة

أمّا الردّ الرسمي من الحكومة البريطانية، فقد جاء بلسان وكيل وزارة الخارجية البريطانية لشؤون أفريقيا اللورد كولينز أوف هايبري، الذي صاغ موقفاً دبلوماسياً واضحاً من دون ضجيج: لا اعتراف بأيّ حكومة تُنتجها أطراف النزاع الحالي. الأولوية هي لوقف القتال، وتوصيل المساعدات، ثمّ استئناف عملية سياسية حقيقية تفضي إلى حكومةٍ مدنيةٍ ذات تمثيل شعبي. لا يعكس هذا الخطاب المتّزن فقط موقفاً تقليدياً للحكومة البريطانية، بل أيضاً يشي بوعي متزايد في الغرب بمخاطر شرعنة سلطات مفروضة، ومحاولات تمرير حكومات رمزية تُستخدَم أدواتٍ لتمديد عمر النظم العسكرية المنهارة. والرسالة هنا واضحة وهي أن الشرعية لا تُمنح بالإعلان، بل تُكتسب من الناس عبر المسار السياسي لا عبر المراسيم.

في المحصّلة، لا تمكن قراءة ما جرى في مجلس اللوردات البريطاني مجرّد تعليق بروتوكولي، بل "حجبَ ثقة" مبكّر تجاه شخصية سياسية لم تبدأ بعد مهامها، لكنّها فشلت حتى في إقناع الخارج بأنها تملك ما يكفي من الاستقلالية لتُحسب قيادةً وطنيةً. أن يُطلق لقب "الدمية" على رئيس وزراء في أول أيّامه ليس سقوطاً أخلاقياً وسياسياً فقط، بل مؤشّر على أزمة أكبر تتعلّق بشرعية المشروع السياسي الذي ينتمي إليه. هو تذكير صارخ بأن ما يُصاغ من فوّهة البندقية، ولو تلحّف برداء مدني، سيظلّ في نظر الداخل والخارج جزءاً من بنية الأزمة، لا من أدوات الحل.

لقد بات واضحاً أن ما يبحث عنه الشارع السوداني، بل وما يطالب به العالم أكثر فأكثر، ليس مجرّد حكومة جديدة أو أسماء مدنية تُدبّج خطاباتها في بورتسودان، بل شرعية جديدة، شرعية تُستمدّ من معاناة الناس، وتُبنى على أساس رؤية وطنية جامعة، لا على موازين قوى السلاح، ولا على ترضيات نُخب ما بعد الثورة. ما نراه في بورتسودان ليس نظاماً سياسياً، بل عرضاً مسرحياً سيّئ الإخراج، تُعاد فيه المَشاهد نفسها: الجنرال المتجهّم، والواجهة المدنية البائسة، والخطاب العشوائي الممجوج. لكنّ الجمهور هذه المرّة ليس غافلاً، ولا صامتاً. فحين يسبق البريطانيون السودانيين في وصف "رئيس الوزراء" بـ"الدمية"، فهذا ليس هجاءً، بل نعش مبكّر لما يُراد به أن يكون حكومة. وربّما، حين يُكتب تاريخ هذه اللحظة، سيُقال لقد أخرج الجنرال من قبعته دميةً، فصفّق له المطبّلون، وضحك العالم، لكن الشعب كعادته.. لم يضحك.

D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
الوليد آدم مادبو

كاتب سوداني، خبير التحديث والتطوير المؤسسي، ومستشار التنمية العالمية

الوليد آدم مادبو