كابوس فرنسي

كابوس فرنسي

17 ابريل 2022

رئيسة حزب الجبهة الوطنية في فرنسا، مارين لوبان، تلقي خطابا في أفينيون (14/4/2022/Getty)

+ الخط -

نحن في مساء الرابع والعشرين من شهر إبريل/ نيسان الحالي، وفي تمام الساعة الثامنة، تُعلَنُ رسمياً نتائج الجولة الثانية والحاسمة لانتخابات رئاسة الجمهورية الفرنسية. وتشير النتائج إلى فوز مرشّحة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، على الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، بفارق ضئيل. صوت مذيع التلفزيون الحكومي يرتجف ويكاد يغيب لفداحة الأمر. الرئيس ماكرون يخرج للجمهور معترفاً بهزيمته، معلناً انسحابه النهائي من المعترك السياسي. يتصل الرئيس الروسي المنهمك بحربه ضد أوكرانيا بلوبان هاتفياً ليكون أول المهنئين بفوزها. وبهذه المناسبة الهامة للكرملين، يدعوها قيصره إلى زيارة موسكو وحضور احتفالية 9 مايو، عيد الانتصار على النازية. تشكره لوبان على المبادرة بمهاتفتها، وتقدّر له أنه لم يتطرّق إلى ديونها المستحقة وغير المسدّدة لمصرف روسي يمتلكه أحد رجالاته. كان هذا القرض، تسعة ملايين يورو، قد ساعد لوبان في خوض انتخابات 2017 التي لم تفلح فيها بإبعاد ماكرون عن قصر الإليزيه. وعلى الرغم من قبول مارين لوبان الدعوة، إلا أنها تقرّر بعد استشارة مساعديها أن تكون أول زيارة لها خارج فرنسا، لصديقها المتطرّف فيكتور أوربان، رئيس وزراء هنغاريا، الذي تعتبره حليفاً ملتزماً، مثلها، بكراهية الأجانب والرّهاب من الإسلام والقرب من سيد الكرملين.

قد تكون أول زيارة لمارين لوبان، حال فوزها بالرئاسة، لصديقها المتطرّف، رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان

في اليوم الذي سيلي إعلان النتائج، سيتواصل اليساري المتشدّد جان لوك ميلانشون، بعد أن حصل على المركز الثالث في الجولة الأولى من الانتخابات، مع رئيسة الجمهورية، ليعرض عليها، بعد أن يُذكّرها بأن أصواتاً من ناخبيه ذهبت إليها بسبب ضبابية موقفه إثر الجولة الأولى، أن يتولّى رئاسة الوزراء لاحتواء الاضطرابات الشعبية والاحتجاجات الاجتماعية التي بدأت تلوح ردّة فعل على صعود اليمين المتطرّف إلى سدة الحكم. تشكره لوبان على عدم توجيه ناخبيه للاقتراع لغريمها ماكرون، لكنها ترفض عرضه السخي هذا. وكردّ فعل سريع، سيدعو مناصريه إلى الخروج في شوارع المدن الكبرى، للتعبير عن احتجاجهم على وصولها إلى قصر الإليزيه. ولمواجهة هذه التوترات، تدعو لوبان أفراد عائلتها المقرّبة إلى اجتماع طارئ، سعياً للاستفادة من تجاربهم في الالتفاف على الاستحقاقات والتراجع عن بعض المواقف المتطرّفة في الخطاب، فالأب جان ماري، مؤسّس الحزب، اشتُهر بالدفاع عن فرنسا المتخاذلة أمام النازيين برئاسة الماريشال بيتان في بداية أربعينيات القرن الماضي. وشكّك مرّات عدة في حصول الهولوكوست، وصولاً إلى درجة اعتباره "تفصيلاً تاريخياً" غير مهم. ومن خلال خبرة الوالد المسنّ، ستعرف كيف تحافظ على توجّهها المتطرّف بإضفاء شيءٍ من الليونة التي ميزتها منه خلال سنوات رئاستها الحزب. وسينصحها زوج شقيقتها، وهو رئيس الحزب حالياً، في ظلّ تخليها عن الرئاسة حسب الدستور، بالتركيز على القدرة الشرائية للفرنسيين وإطلاق قراراتٍ تمسّ محافظهم، بحيث تنخفض القيمة المضافة على أكثر من مائة سلعة أساسية. وبالتالي، ستتمكّن من امتصاص غضب بعض اليسار الشعبي. أما رئيس "مراسلون بلا حدود" السابق، الذي صار أحد مؤيديها الأوفياء، فسيعطيها مفاتيح إعلامية، لكي تتمكّن من نشر الدعاية السياسية المخدّرة.

سيسترجع ماكرون بحسرة المناسبات التي حاول خلالها جذب الناخبين المتطرّفين

والتزاماً من لوبان بما ورد في وعودها الانتخابية، ستعرض قراراتٍ تمسّ السياسة الداخلية كما الخارجية لاستفتاء شعبي، بحيث تسعى، من خلال هذه الطريقة الشعبوية، للالتفاف على دستور الجمهورية الخامسة أو تعديله، كما ذكرت سابقاً أكثر من مرّة. أولى بشائر إقحام القضايا المعقدة في رمال الاستفتاءات المتحرّكة ستكون مسألة الهجرة، وصولاً إلى منعها تماماً إلا في ما ندر. كذلك ستعرض على الاستفتاء إعادة حكم الإعدام الذي أُنهي العمل به من خلال قرار تاريخي أصدره الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران. وفي الملفّين، تبدو ثقتها عالية بتأثير وسائل الإعلام اليمينية في تشكيل الرأي العام، وبالتالي في نتائج الاستفتاء، لأن استمرارها خلال السنوات الماضية في الحديث عن مساوئ الهجرة ومخاطرها، كما التركيز على غياب الأمن والفلتان الجرمي، سيدفع غالباً الناس إلى قبول ما يعتقدون أنه الحل الأمني المتشدّد. وفي ما يخص الاتحاد الأوروبي، بعد أن عدلت عن رغبتها بالانسحاب منه كما فعلت بريطانيا، فهي ستخفض مساهمة فرنسا المالية فيه من تسعة مليارات إلى خمسة مليارات، وستعتبر أن القوانين المحلية تسمو على القوانين الاتحادية، ما يعني في المحصلة القضاء على هذا المشروع النموذجي. وتلبية لرغبتها في إضعاف حلف الأطلسي، فهي ستسحب فرنسا من هيئة أركانه، وتحاول أن تدفع باتجاه انفتاحه الكامل على روسيا. في جعبة اليمين المتطرّف الكثير أيضاً من التغييرات الجذرية في السياسات العامة، كما في الدبلوماسية الفرنسية، لن تكون العودة إلى نظام دمشق بحرارة أولها، علماً أن زيارات ممثلي هذا اليمين لم تنقطع عن دمشق، ولن يكون العمل الدؤوب الموحَى به من "المرشد" الأعلى، فلاديمير بوتين، في تفكيك الاتحاد الأوروبي آخرها.

وفي منزله الريفي، سيسترجع إيمانويل ماكرون بحسرة كل المناسبات التي حاول خلالها جذب الناخبين المتطرّفين بتبنّي هواجسهم المتعلقة بالهجرة وبالإسلام والأمن، وسيشعر بغضب عارم بعد أن فات الأوان.

انتهى الكابوس.. مؤقتاً.