كابوس الهجرة العكسية في إسرائيل
يهودي متدين إلى المغادرة في مطار بن غوريون قرب تل أبيب (6/8/2024 فرانس برس)
نشرت صحيفة لوموند الفرنسية، الأسبوع الفائت، تقريراً بعنوان ''موجة غير مسبوقة من الهجرة من إسرائيل''، أوردت فيه بيانات بشأن الإسرائيليين الذين غادروا نحو الخارج (أكثر من 82 ألفاً حسب المكتب المركزي للإحصاء)، في أكبر هجرة عكسية منذ تأسيس دولة الاحتلال قبل 77 عاماً. يلفت الانتباه في هذه البيانات أن 54% من الذين غادروا إسرائيل يتحدرون من منطقة تلّ أبيب الكُبرى، التي تُعدّ مركز الثقل التجاري والاقتصادي والثقافي. بالطبع، ليست هذه الهجرة حديثةً، لكنها اليوم أضحت تكتسي دلالةً بالغةً بعد الارتجاج المجتمعي الذي خلّفته أحداثُ 7 أكتوبر (2023)، وحربُ الإبادة التي أعقبتها في غزّة 14 شهراً.
لا يقتصر الأمر على مهاجرين يبحثون عن آفاق اجتماعية واقتصادية واعدة في الغرب، بل يتخطّاه نحو شعور عام متنامٍ داخل المجتمع الإسرائيلي بانعدام الأمن؛ يجد جذوره في مأزق المشروع الصهيوني وفشله في حلّ ''المشكلة الفلسطينية''، وأيضاً في أزمة ''الديمقراطية الإسرائيلية'، مع صعود اليمين الديني الإسرائيلي المتطرّف، وتحوِّله رقماً صعباً في السياسة الإسرائيلية.
تكشف ظاهرة الهجرة العكسية في إسرائيل انقساماً عميقاً داخل المجتمع، فهناك فئات وشرائح، على الرغم من ولائها لدولة الاحتلال، إلا أنها في الوقت نفسه لا تختلف عن الطبقات الوسطى في العالم المعاصر، من ناحية تطلّعها إلى حياة مستقرّة وآمنة وكريمة. وإذا كان الأجداد الأوائل قد هاجروا إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد في المجتمعات الأوروبية، وإيمانا منهم بالمشروع الصهيوني، فإن عدم حسم الصراع بعد أكثر من 140 عاماً على أولى الهجرات اليهودية إلى فلسطين، يسائلُ، بالنسبة لهذه الفئات والشرائح، أسسَ هذا المشروع، الذي ربط زئيف جابوتنسكي (أحد القادة التاريخيين لليمين الصهيوني الملهمِين لنتنياهو) نجاحَه بضرورة القضاء على الفلسطينيين. ومن غير المعقول، بالنسبة للأجيال الإسرائيلية الجديدة، توريثها تكاليف الصراع الباهظة أمام صمود الفلسطينيين، وعدم تسليمهم بالأمر الواقع، على الرغم من انصرام عقود على اغتصاب وطنهم. من هنا، يبدو من الأجدى، بالنسبة لها، البحث عن وطنٍ بديلٍ بدل الانتظار عقوداً أخرى لإيجاد حلٍّ لأحد أكثر الاحتلالات الاستيطانية تعقيداً في التاريخ.
تبدو هذه السردية محرّكاً لآلاف الأسر الإسرائيلية الباحثة عن الاستقرار والأمن والرفاه، ما يُفترض أن تتطلّع إليه المجتمعاتُ التي تشكّل الطبقةُ الوسطى عمودَها الفقري. وبالرجوع إلى ما أوردته الصحيفة الفرنسية، فإن نسبةً عاليةً من الذين غادروا إسرائيل، نحو قبرص واليونان والبرتغال وإسبانيا والولايات المتحدة وغيرها، ينتمون إلى الفئات والشرائح الأكثر كفاءةً وتأهيلاً من الناحية المهنية، خاصّة في قطاعَي التكنولوجيا المتقدّمة والأعمال، ما يعني أن الأمر يتعلّق بنزيف كفاءات سيكون على إسرائيل مواجهة تداعياته الاقتصادية والسياسية. بالموازاة مع ذلك، بات صعود اليمين الديني المتطرّف مقلقاً للنخب الليبرالية والعلمانية. ويرى كثير من الإسرائيليين في سياسات التحالف الحكومي الحالي، الذي يضمّ أعضاءً من هذا اليمين، دافعاً للتفكير في الهجرة من إسرائيل والتخلّي عن أسطورة ''أرض الميعاد'' رغم جاذبيتها الوجدانية.
لطالما كان تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين ضمن أولويات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بالنظر لأهمية ذلك في تأمين الغلبة الديموغرافية على الفلسطينيين، وضمان التفوّق العسكري والسياسي في محيط شعبي عربي مُعادٍ. غير أن اهتزاز ثقة الإسرائيليين بالأجهزة الأمنية والاستخبارية، وبقدرتها على حمايتهم بعد "7 أكتوبر"، سيجعل مهمّة الحكومة الإسرائيلية (الحالية أو المقبلة) في تشجيع اليهود على الهجرة بالغة الصعوبة، ولا سيّما في ظلّ التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لحرب غزّة، ناهيك عن التصدّعات المجتمعية والانقسامات الحزبية والسياسية بشأن قضايا الدين والهُويَّة والديمقراطية.
يتطلّع معظم الإسرائيليين إلى ما ستؤول إليه الأوضاع في قطاع غزّة. وفي حال الإخفاق في تثبيت وقف إطلاق النار واستئنافِ حكومة نتنياهو الحرب على غزّة، فإن ذلك، سيساعد اليمين الديني المتطرّف، حتماً، على الانعطاف بالدولة والحكومة نحو طور أكثر راديكالية، ما يعني استمرار كابوس الهجرة العكسية.