كأنها من عالم آخر

كأنها من عالم آخر

16 يوليو 2022

علاقات باردة وسريعة الزوال تحدُث عبر شاشة زرقاء باهتة (Getty)

+ الخط -

"حضرنا ولم نجدكم" .. كانت هذه الجملة تُكتب على ورقة ملاحظات تنتهي بلاصق خفيف، وتترك على باب البيوت التي تزار من دون أن يكون أصحابها موجودين، وتوقّع باسم الزائر مرفقا بالتاريخ والساعة. كل من ينتمي إلى جيلي والجيل الذي سبقني وربما الجيل اللاحق يتذكّر هذه الجملة. كان هذا زمن ما قبل دخول الهواتف الأرضية إلى البيوت، حين لم يكن من طريقة للتواصل بين الأصدقاء أو الأقارب سوى الزيارات المفاجئة، والتي غالبا لم تكن محدّدة بساعة ما، بل تترك للمصادفات، بغضّ النظر إن كان الشخص المقصود للزيارة متاحا أو جاهزا لاستقبال آخرين، لم يكن التفكير في مسألة خصوصية العائلة أو الشخص المزار مهمةً لأحد، بل لم تكن مفردة الخصوصية أساسا مستخدمة كثيرا تلك الفترة، كانت الحياة بسيطة وسهلة ومتداخلة إلى حد بعيد، إلى درجة أنه، مع بداية دخول الهواتف الأرضية، كانت الأسر التي تملك واحدا بمثابة غرفة سنترال لكل الجيران، كان رقم هاتف هذه العائلة يوزّع على العشرات ممن لا يعرفهم أحد من أفرادها. كان هؤلاء أقرباء وأصدقاء لجيران البيت الذي ابتسم الحظ له ودخله الهاتف. أتذكّر أننا كنا ندخل إلى بيت جيراننا المحظوظين، ونتّصل بأحد ما ونتحدّث معه وقتا طويلا أحاديث شديدة الخصوصية، بينما أفراد عائلة الهاتف جالسون يستمعون، إذ كانت الهواتف الأرضية توضع في غرف الجلوس أو في غرف الضيوف. أزعم أن لا أحد، لا منا ولا من أصحاب الهاتف، كان يخطُر له التفكير بمعنى الخصوصية في ذلك المقام.

ومع دخول الهواتف إلى كل البيوت تغيّر الوضع، صارت الزيارات تتم عبر موعد مسبق يحدّد عبر الهاتف (تستثنى القرى من هده الحداثة المجتمعية، إذ ظل الريف السوري، على الأقل، حتى وقت قريب أبواب بيوته مفتوحة أمام الجميع وفي أي وقت). وبدلا من جملة "حضرنا ولم نجدكم" (كانت تكتب دائما بالفصحى) انتشرت في الهواتف الأرضية ميزة تسجيل رسائل سريعة في حال عدم الرد (معظم الرسائل أيضا كانت تترك باللغة الفصحى)، قبل أن تنتشر ميزة معرفة رقم الشخص المتصل.

حين أتذكّر تفاصيل كهذه يخيّل إلي أن ذلك الزمن يبدو بعيدا جدا وكأن أحداثه حصلت في حلمٍ ما، رغم أنه لم يتجاوز الأربعين عاما أو أكثر قليلا، (أتحدث عن سورية التي تأخرت عن محيطها في الدخول في حداثة الهاتف النقال أوالمحمول). ولكن بسبب الخطوات هائلة السرعة في التطوّر التقني وتطوّر وسائل الاتصال، وبسبب ما أحدثته من افتراقات كبيرة مع ما كانت تسير عليه الحياة قبلها، فإن ذلك الزمن يبدو كما لو أنه الجاهلية في العصر الحديث، لفرط بساطة أدواته وبدائيتها بالقياس إلى التطوّر التقني الما بعد حداثي الذي نعيش فيه في عصرنا الحالي.

غيّر الهاتف المحمول والأجهزة اللوحية الذكية من شكل العلاقات المجتمعية، لم يعد أحدٌ يفرض نفسَه على أحد بزيارة مفاجئة، لم تعد الناس تتزاور أو تلتقي إلا ما ندر، الخصوصية التي طالما اعتبرت مفقودة في مجتمعاتنا تحوّلت إلى قطيعة، وحلت الرسائل القصيرة إس إم إس، أو" ماسينجر"، أو واتساب أو فايبر ..إلخ. محل المكالمة التلفونية بعد أن حلت المكالمة محلّ الزيارة، ثم حلت الرسائل الصوتية السريعة محلّ الرسائل النصية، وكأن البشر يريدون بذلك إنهاء التواصل سريعا، والعودة إلى الغرق في وحدة وعزلة مدعمة بحالة تماهٍ شبه كاملة مع العالم الافتراضي، تفصلهم عن الواقع الحقيقي فارضة حالة غير مسبوقة من الخصوصية على الجميع. ولكن الخصوصية هذه التي نمدحها دائما ونمدح المتسبّب فيها سنكتشف أنها ليست سوى وهم نقنع أنفسنا به، فنحن استبدلنا عفوية علاقاتنا البشرية ودفئها ودفء المشاركة والتعاطف بعلاقاتٍ خاليةٍ من العواطف، علاقاتٍ باردةٍ وسريعة الزوال تحدُث عبر شاشة زرقاء باهتة، نفترض أنها دفتر مذكّرات سرّي ونسجّل عليها أدقّ تفاصيل حياتنا التي سيعرفها مئاتٌ أو آلافٌ لا تربطنا بهم أية صلة أو معرفة، وسيدعون أنهم متفهمون، وأننا مهمون لهم. ولكن إن غاب أحدنا عن هدا العالم لسبب من الأسباب، فإنه سوف يُنسى كأنه لم يكن، كما لو أنه مات، كما لو أن وجوده الافتراضي هو قرين وجوده الحقيقي بالنسبة للآخرين في هذا العالم، عدا عن التنمّر على ما يسرده الآخرون عن ذواتهم الذي يحدُث في الغرف السرّية لكواليس هذا العالم العجائبي الذي يحلّ حرفيا محل العالم الواقعي، بكل ما فيه، ملقيا بفكرة الخصوصية في سلة مهملات القواميس.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.