قيس سعيّد بين المونولوغ وبناء التحالفات

قيس سعيّد بين المونولوغ وبناء التحالفات

16 ديسمبر 2021
+ الخط -

التقيت أستاذ القانون، قيس سعيّد، في 21 سبتمبر/ أيلول 2017، وحاورته، في أثناء إقامتي مراسلاً لصحيفة "الأهرام" في تونس. وأجدني محظوظاً، عندما أقارن مقابلتي تلك معه بما جرى لفريق صحيفة "نيويورك تايمز" الذي التقاه في قصر قرطاج، وهو رئيس للجمهورية، مباشرة بعد قراراته في 25 يوليو/ تموز الماضي، ولم يتمكن أحد من مبعوثي الصحيفة الأميركية من توجيه سؤال واحد يقطع به "مونولوغ" السيد الرئيس. على الأقل، سألت وأجاب، وتبيّنت أنّ الرجل مسكونٌ بنظرية المؤامرة وغير مقتنع بدستور 24 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2014.

بعد انتخاب قيس سعيّد، وتوليه رئاسة الجمهورية التونسية، في سياق بدا لمراقبين وفي الشارع حينها هناك (وكنت حاضراً في تونس أيضاً) "انتصاراً للثورة" على ما كان قبل ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 - 14 يناير/ كانون الثاني 2011، ممثلاً في منافسه في الجولة الانتخابية الثانية، نبيل القروي، اتضح عزوف "السيد الرئيس" عن التواصل المباشر مع الصحافة وعن إجراء الحوارات، حتى مع وسائل الإعلام العمومية في بلاده. بل وشكا صحافيون تونسيون وممثلوهم النقابيون من تغييبهم عن الأحداث التي يشهدها قصر قرطاج الرئاسي، وأنّ ندوات (مؤتمرات) صحافية تنعقد من دون صحافيين! بل فرض الرجل نموذجاً غريباً طريفاً في الاتصال مع الجمهور، يعتمد على "مونولوغ" يلقيه في حضور من يستقبلهم في قرطاج، مخاطباً جمهوراً متوهّماً غائباً، مع تشييء ضيوفه وتحويلهم إلى مجرّد حضور مادي مرئي لالتقاط الصور ليس إلّا. وحتى هو لا يسمح لأيٍّ من الضيوف بالحضور، إلّا في ما ندر وندر جداً، بإلقاء تصريح من داخل القصر الرئاسي، كما كان يحدُث دائماً في عهد سلفه الراحل الرئيس الباجي السبسي.

لا تخرج كلمة الرئيس قيس سعيّد يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري التي حملت معها قراراته السبعة عن سياق "مونولوغ" حاكم فرد يختصر، في ذاته وإرادته، الشعب، والدولة، والوطن. يتعالى عن الحوار ويرفضه، حتى مع "حلفائه" على قاعدة إجراءات 25 جويلية، والمرسوم 117 الصادر في 22 سبتمبر/ أيلول الماضي. استغرقت الكلمة نحو 38 دقيقة، استهلك معظمها (28 دقيقة) في مقدمة حافلة بما أصبح يشتهر به من نرجسيةٍ وعنفٍ لفظيٍّ وتهويماتٍ ملغزةٍ ومحاربة أعداء/ شياطين أشرار فاسدين بصيغة المبني للمجهول. مقدّمة طويلة إلى حد استجلاب الملل تجعل المتلقين يترحّمون على جيل الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر وغيرهما مما لم تكن كلماتهم الموجهة إلى الشعب تخلو من جاذبية ما يتمتعون به من "كاريزما" وقدرات خطابية وحس في التعامل مع الجماهير، وإلى حد استلابها وامتلاكها.

لا تخرج كلمة سعيّد يوم 13 ديسمبر التي حملت معها قراراته السبعة عن سياق "مونولوغ" حاكم فرد يختصر، في ذاته وإرادته، الشعب، والدولة، والوطن

وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ نظامي الحكم والانتخاب في تونس بعد الثورة في حاجةٍ إلى تعديلاتٍ وإصلاح، من دون السقوط في مبالغات "العشرية السوداء" وافتراءاتها، وأنّ ما قبل الثورة كان أفضل، ومع إدراك خطايا إهمال الأحوال المعيشية الاقتصادية الاجتماعية وعواقبه، وضرب نفوذ الثورة المضادّة وتغوّل قواها، فهل الذي أعلن برنامجه الزمني الرئيس سعيّد، أخيراً، هو الطريق المؤدّي إلى هذا الإصلاح؟ ثمة شكوك، بل شكوك كبيرة في ذلك. وتفيد قراءة مضمون القرارات الرئاسية المعلنة، أخيراً، ومآلاتها المتوقعة بمصادرة تراث تونسي مهم وإهداره، في الحوار الديمقراطي بين مكونات المجتمع يقوم على التفاوض على "عقد اجتماعي سياسي" تلو آخر، فما تطرحه هذه القرارات مسار يبدأ "كاستشارة افتراضية" وينتهي إلى لجنة خبراء قانونيين متوافقين مع السلطة، يختارهم رئيس الجمهورية (من أصبح جامعاً للسلطات والصلاحيات من دون رقابة أو توازن). وهذا وصولاً إلى "استفتاء 25 يوليو/ تموز 2022" الذي لن يخرج، على الأرجح، عن عيوب ما اكتوينا بنيرانه عقوداً بعد الاستقلال في المشرق العربي من استفتاءات تنتج "نعما ساحقة" وكتصويت بدائي وبروح القطيع على الثقة في الحاكم/ السلطة/ الدولة بدون الالتفات إلى مضمون الاستفتاء وتفاصيل هذا المضمون.

"مونولوغ" رئيس تونس، المصحوب بقراراتٍ على هذا النحو من الخطورة، لا يتموقع ويتقدم في فراغ، فعند "الرئيس/ السلطات/ الدولة/ الوطن والوطنية"، وما يرتكز عليه من "شعبوية" استجدّت على الساحة التونسية بعد الثورة، بناء من التحالفات الاجتماعية يأخذ في النمو. وهذا على الرغم مما هو ملحوظ من تآكل رصيده بين حلفاء "25 جويلية " في ساحة الحزبية السياسية ومنظمات المجتمع المدني. ثمّة تحالفٌ جديدٌ في تونس، يدعم "مونولوغا" هكذا ومسارا. فبعدما بدا من إحكام "الرئيس الشعبوي" نسج تحالفاتٍ مع بيروقراطية أجهزة الدولة العليا، بما في ذلك داخل المؤسستين العسكرية والأمنية، والتصالح مع الخطاب المعادي للثورة، وقد باتت رموز هذا الخطاب في صدارة مشهد "التصفيق للسيد الرئيس" ها هو يمدّ اليد إلى رجال أعمال الثورة المضادّة، وعهد ما قبل الثورة بتوقيع مرسوم "الصلح الجزائي" معهم، وتضمين مصالحةٍ كهذه "كلمة 13 ديسمبر" وقراراتها. كما يتأسّس بناء هذا التحالف الداخلي حول "مونولوغ الرئيس" على تحالفاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ معاديةٍ للانتفاضات والثورات العربية، وقد أصبحت واضحةً جليةً ليست في حاجة لمواربةٍ أو تخفٍّ. وهي واضحة كوضوح رغبتها وسعيها إلى إجهاض أيّ محاولة لبناء تمثلات الديمقراطية ومرتكزاتها (بما في ذلك البرلمان وحرية التنظيم والتعدّدية الحزبية السياسية والحريات والحقوق) في أيّ مجتمعٍ في المنطقة العربية، لتخرج به عن قرون الاستبداد والفساد والتخلف.

مقدّمة حافلة بما أصبح يشتهر به من نرجسيةٍ وعنفٍ لفظيٍّ وتهويماتٍ ملغزةٍ ومحاربة أعداء/ شياطين أشرار فاسدين بصيغة المبني للمجهول

وبصرف النظر عما ورد في كلمة الرئيس سعيّد المستهزئة "بالتصنيفات الدولية" والنافخة في مزمار "السيادة الوطنية" فإنّ حكومته تتّجه إلى اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي. وهذه المرّة الأرجح أن تكون الشروط أكثر قساوةً لاعتبارات عدة، منها انخفاض منسوب ما كانت تتمتّع به تونس على مدى السنوات العشر الماضية من مرونة ومقاومة نسبية في ظل نظام سياسي تعدّدي وثقل للمجتمع المدني وحرية صحافة. وفي هذا السياق، يُخشى ويُتوقع مواجهة الاحتجاجات والمطالب الاجتماعية بعنف بوليسي غير مسبوق طوال سنوات ما بعد الثورة. وفي كلمة الرئيس سعيّد، أخيراً، إشارة لافتة نحو هذا الاتجاه، مصحوبة بلهجة وعيد. وفي هذا ما سيزيد من مصاعب عام الجدول الزمني الذي ينتهي بانتخابات تشريعية مبكّرة وفق قواعد جديدة في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022، مروراً بتعديل الدستور والنظام الانتخابي. وقد يُضاف إلى هذا السياق تصاعد توتر أصبح متوقعاً أيضاً مع الاتحاد التونسي العام للشغل، والذي لم تخلُ الكلمة الرئاسية من الاستهانة والسخرية من دعوته إلى "خيار ثالث".

عندما حاورتُ قيس سعيّد بوصفه متخصصاً في القانون قبل ما يزيد على أربع سنوات كان ساخطاً على تمرير قانون المصالحة الإدارية مع رجال الدكتاتور زين العابدين بن علي في البرلمان، بتحالف وتواطؤ بين حزب نداء تونس وحركة النهضة. لكنّه ها هو رئيس للدولة لم يلغ أو يقترب مما كان مثار سخطه ورفضه. بل ويزيد عليه "مصالحة اقتصادية" مع رجال أعمال عجز سلفه الرئيس الراحل السبسي عن تمريرها حينها، بضغوطٍ من الشارع وشباب "مانيش مسامح" وقوى حزبية معارضة وفي المجتمع المدني.

وهكذا، يبدو اليوم وكأنّ هذا "المونولوغ الشعبوي" يوطّد تحالفاته مع قوى نظام ما قبل الثورة.