قيامة الشعوب: مادلين مرّت من هنا

11 يونيو 2025

السفينة مادلين لحظة انطلاقتها من قطانية جنوبي إيطاليا (1/6/2025 الأناضول)

+ الخط -

لم يكن أحدٌ في هذا العالم يتوقّع أن تبلغ السفينة الصغيرة مادلين شاطئ غزّة، حتى الاثنا عشر مناضلاً الذين كانوا على ظهرها لم يكن أكثرهم تفاؤلاً يتوقّع ذلك، ذلك أنّ الهدف لم يكن الوصول إلى غزّة بحمولة قارب صغير من مساعداتٍ لا تكفي عشر عائلات على الأكثر. كان الهدف هو الإبحار بغزّة وقضية الشعب المحاصر فيها إلى أعماق الضمير العالمي الذي كان قد استسلم لغيبوبةٍ أقرب إلى الموات، وهو ما نجحت فيه القافلة بامتياز، حيث قامت الشعوب التي كانت عاصفة من اليأس قد ضربتها، فعادت الجماهير تزرع شوارع عواصم العالم بالغضب، وتضغط على حكوماتٍ بقيت على تواطؤها طوال فترة العدوان الصهيوني، ثم بدأت تستشعر الحرج مع استهانة الاحتلال بها، وبالقانون الدولي والإنساني، متعرّيًا من كلّ اعتبار أخلاقي.

لم تكن "مادلين" تبحث عن نهاياتٍ حتى يستسهل بعض الإعلام الكسول ويصف ما جرى لها نهاية مأساوية أو حزينة، بل كانت الرحلة ضربة البداية لمرحلة جديدة من الحراك الشعبي الهادر، العابر للبحار وللأيديولوجيات، ليُسمع دوي الهتاف مجدّداً في العواصم التي كانت قد خلدت للنعاس.

انتفضت شوارع باريس من جديد، وواصلت لندن التعبير عن التمسّك بنضالها ضدّ جرائم الكيان الصهيوني، وكذلك فعلت أمستردام وبرشلونة ومدن أوروبية عدّة، قامت ضدّ وحشية الاحتلال الذي باتت شعوب العالم الحرّة على يقينٍ بأنه ليس فقط عدوًاً لفلسطين، وإنما يعادي القيم الإنسانية والأخلاقية، ويمثل نموذجاً مجسّداً مفهوم الجريمة ضدّ الإنسانية، والأهم أنّ رحلة مادلين عرّت الحكومات أمام شعوبها وأطلقت موجة جديدة من الثورة العالمية التي كانت ذروتها وموجتها الأولى التظاهرات الطلابية في الجامعات الأميركية، والتي امتدّت إلى غيرها من جامعات العالم.

أقامت "مادلين" الحجّة على الشعوب العربية، التي قرّرت بدورها أن تتحرّك وتقيم الحجّة على حكومات استمسكت بالعجز شكلاً من أسوأ أشكال التواطؤ، وراحت تمارس هزالاً احترافيّاً وقلّة حياة مصنوعة بإحكام أمام جبروت الاحتلال، فكان الإعلان عن قافلةٍ لأحرار دول المغرب العربي انطلقت من الأراضي التونسية مارّةً بالأراضي الليبية، قاصدة الأراضي المصرية للوصول إلى معبر رفح البرّي في أوسع تظاهرة شعبية عربية تقول للشعب الفلسطيني إنّ لك أشقاء يؤلمهم جرحك ويحيّيهم صمودك ولن يتركوك وحدك.

مثل أهل مادلين الطيّبين يدرك أهل قافلة الصمود أنّ مسيرتهم إلى غزّة تمرّ بدروب شديدة الوعورة من الخذلان العربي الرسمي المتواطئ بالصمت والعجز مع العدوان الصهيوني، لكنها طرقة لازمة وضرورية على أبواب المُتخاذلين نياماً، وهتاف صامت في وجه هؤلاء يقول: إما أن تفعلوا شيئاً حقيقيّاً لوقف إبادة شعب شقيق، وأنتم تستطيعون وتملكون الكثير من عناصر القوّة... أو لتتركوا الشعوب تفعل، وهي تمتلك الإرادة والقدرة على الفعل.

 مبكّراً، وفور الإعلان عن انطلاق قافلة الصمود الشعبي العربي شمّرت جحافل الإعلام المصري عن ساعديها وصوّبت حرابها الصدئة على القافلة، التي هي بنظرها، كالعادة، مؤامرة خبيثة تستهدف توريط الدولة المصرية وإحراجها دوليّاً، ثم يتطوّر الخطاب إلى ما يشبه الهلاوس والهذيان حين يبرّر منع القافلة من الوصول إلى المعبر بأنه إن سمح للحشد بالوصول إلى هناك فيسكون تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه هو النتيجة الحتمية!

الراجح أنّ السلطات المصرية سوف تختبئ خلف رجلها في ليبيا خليفة حفتر ليقوم بوظيفة منع بلوغ القافلة الحدود المصرية، وها هو العزف في المواقع الصحافية المحفترة قد بدأ، إذ تنتشر على لسان المصدر الدبلوماسي المصري، المجهول طبعاً، أنّ "حكومات الدول المغاربية الثلاث لم تُنسّق معنا بشأن هذه القافلة، وأن حملة الجوازات التونسية والجزائرية يحتاجون تأشيراتٍ مسبقة من سفارات مصر في عواصمهم، ولم يتقدَّم أيٌّ منهم بطلبٍ في هذا الخصوص". ثم يلقي المصدر بكرة اللهب في ملعب حفتر "على الجانب الليبي، كطرف حدود، أن يُنسّق معنا وفق الأعراف الدبلوماسية والقانونية المعمول بها في مثل هذه الحالات، فمن غير المقبول إرسال آلاف الناس إلينا بشكلٍ عشوائي من دون تنسيق أمني أو دبلوماسي أو لوجستي". 

حسنًا، امنعوا قافلة الألف وخمسمائة مواطن عربي حرّ من الذهاب إلى معبر رفح والتظاهر عنده دعماً للشعب الفلسطيني، وقولوا للعالم مرّة أخرى إنكم على موقفكم المُتواطئ بالعجز المُفتعل، مثل عاهة اصطناعية للابتزاز، أمام توحّش الاحتلال، وأهدروا فرصةً جاءتكم مرّة أخرى لتنفضوا عن أنفسكم غبار المشاركة في الحصار بالعجز، أو الاكتفاء بتظاهراتٍ راقصةٍ مبتذلة عند المعبر. 

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة